د. محمود عباس
مؤتمر موسكو بين وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا وسوريا، فيما إذا عقد، ستكون حلقة من سلسلة الصفقات السياسية الحديثة، التي بدأت من مؤتمر طهران قبل سنة، لتسويق المعارضة السورية بالشكل المهين الذي درجوا عليه طوال السنوات الماضية، والتي تكررت من على طاولة المؤتمرات العديدة بين الدول المذكورة، والتي لم تنتهي هناك، مثلما لن تكون موسكو الحلقة الأخيرة، ولن تكتفي تركيا بصفقاتها التجارية بعد كل مؤتمر، والتي عرضت فيهم المعارضة كبضاعة قابل للشراء والبيع، ودفعتهم إلى ساحات الهزائم والانتكاسات طوال سنوات العشر الماضية، في الوقت الذي كانت فيها روسيا وإيران يرفعون من شأن النظام المجرم ويثبتون أركانه. فبعد كل مؤتمر شاهدت الشعوب السورية كيف انتصر فيها النظام بمساعدة الميليشيات الإيرانية والطيران الروسي، وبالمقابل سوقت تركيا الأكاذيب للبقية الباقية من المعارضة التكفيرية لإقناعهم على أنها الراعية الأصدق، وأفضل من يحمي القضية السورية. المفهوم الذي روجته وبسند روسي إيراني غير مباشر، ليستمر تأثيرها ليس فقط على المعارضة العربية التكفيرية، بل وعلى شريحة من الكورد.
لا شك صرفت تركيا جهد في هذا المجال، لأنها كانت بحاجة إليها كأداة لتمرير أهدافها، وعملت على إقناع منظماتها على أنها عرابة القضية السورية، وفي الواقع صراعها في البدايات مع روسيا والنظام كانت خدع سياسية خططت على المستويات الإستراتيجية بين تركيا وإيران وروسيا، وعلى بنيتها تلاعبوا بقضية الشعب السوري، وأوصلوهم إلى هذا الدمار الكارثي لئلا تفكر شعوبهم بمسيرة مشابهة. واليوم عندما يصر النظام وبتخطيط مشترك بين الدول الأربع، بسحب تركيا قواعدها من الأراضي السورية، ليست سوى حلقة من ضمن سلسلة الخدع التي دمروا بها الشعوب السورية وقضيتهم، والمسألة في حقيقتها منتهية، وقد تم الاتفاق على منطقة إدلب، فقط يحتاجون إلى الطريقة التي يجب أن يتم فيها تقرير مصير المنظمات التي سيتم التفاوض عليهم في مؤتمر موسكو القادم.
والصمت التركي ليس نابع من منطق الرفض، بل لأنها لا تزال بحاجة إلى بعض المنظمات التكفيرية، وتسخيرها بوجه مغاير، ليس كما كان يدفع بها إلى معارك التدمير، ومن ثم التهجير، بل لمحاربة الحراك الكوردي وقوى الإدارة الذاتية.
ففي النهاية تركيا ستقنع النظام، مثلما عملت مع إيران، على أن وجود المعارضة التكفيرية في عفرين وكري سبي وسري كانيه، مهمة في المستقبل ليس لمحاربة النظام، بل للصراع مع الكورد، وضرب قضيتهم، إلى جانب استعمالهم كورقة ضغط على القوات الأمريكية ووجودهم في غرب كوردستان، ولتحقيق جزء من هذا الهدف، ستبدأ تركيا بحفر قبر المعارضة السياسية في إستانبول، وستقرأ الفاتحة عليها في إحدى أروقة الكرملين، وبشهادة إيران، وستدفن العسكرية إما في منطقة إدلب، أو سيتم تذويبهم مع الزمن، وستضم بعضها إلى أدواتها في المناطق الكوردية، لأن تركيا ستحتفظ بمنطقة عفرين وكري سبي وسري كانيه إلى فترة ما، كجزء من الصفقة، فلهم خصوصياتهم المرتبطة بالقضية الكوردية والتي هي من عمق الإستراتيجية التركية القومية، وستظل هناك إلى أن تتأكد على أنه لن تتجه سوريا نحو النظام الفيدرالي، والتي كان مخططا دوليا، أي لئلا تصبح المنطقة الكوردية؛ فيدرالية بخصوصية سورية مع حدود جغرافية تطل على البحر الأبيض المتوسط.
مؤتمر موسكو ستكون المنصة التي سيتم فيها تقرير مصير إدلب، تنفيذها مرتبط بعوامل داخلية ودولية. فبعدما بدأت الظروف الدولية تفرض على تركيا البدء بالتطبيع مع نظام بشار الأسد، كسباق مع الدول العربية، تسارعت في تسخير المعارضة هناك كمرتزقة؛ عسكرية وسياسية، لبلوغ مآربها الأوسع من جغرافية سوريا، خاصة في مواجهة الدول العربية التي تريد تضييق خلافاتها مع إيران، ولكنها الأن وحيث التقارب مع بعض الدول لم تعد بحاجة إلى بعضهم خاصة المدرجة دوليا ضمن قائمة الإرهاب، والتي تمكنت مع النظام من القضاء على قسم واسع منهم، وخسرتهم نصف جغرافية سوريا.
نتذكر كيف أنها وبعد دخول روسيا على الخط السوري دفعت بذاتها لتكون عرابة المعارضة السورية، وحاربت الدول العربية، وتمكنت من تهميش المنصات التي تشكلت في مصر والسعودية، فعلتها ليس حبا بالمعارضة السورية أو دفاعا عن قضية الشعب السوري، بقدر ما وجدتهم أدوات تساعدها لاحتلال المنطقة، ومن ثم التقرب من روسيا كحليف مستقبلي لمواجهة الهيمنة الأمريكية-الأوروبية، لذلك وبعد مؤتمرات الأستانة وسوتشي وغيرهما من المؤتمرات الاستثنائية، وحصوله على المساعدات الهائلة من قطر وبعض الدول الأوروبية، أصبحت حمايتها لهم من ضرورياتها، رغم وجودهم ضمن قائمة الإرهاب لدى روسيا وأمريكا وأوروبا. والأن المرحلة انتهت، نفس الأدوات بدأت تعيق ما تطمح إليه، وبالتالي لا بد من الإتجار بها كما تاجرت بهم في السابق.
لا شك ما تملكه قوات قسد وقوات الـ ي ب ك والـ ي ب ج، من الركائز والدعم الدولي لا تملكه قوات المعارضة العسكرية السورية، وبعكس ما قدمته أمريكا للمنطقة الكوردية، حولتهم تركيا وقطر من قوات معارضة ضد النظام المجرم إلى مرتزقة وأدوات لتحقيق مصالحهما، وهو ما دفع بأردوغان، وتحت غطاء العمق الإسلامي، استخدامهم كبضاعة قابلة للربح والخسارة، وليس كقوات تحمل مبدأ الدفاع عن حقوق الشعب السوري، الحقيقة التي جعلتها مكروهة من قبل حاضنتها الشعبية، وأصبحت على مقاس النظام من قبل أغلبية الشعب العربي السوري ليس فقط في الداخل بل بين المهاجرين في دول الجوار و الشتات.
على صدى هذه التوقعات من مؤتمر موسكو، وبعد 18 مؤتمرا تمت فيها الصفقات على حساب المعارضة، واخرجتهم من درعا والغوطة والزبداني وحلب وحماه وغيرها إلى أن تم حصرهم في إدلب، واستخدامهم لقتال الكورد بدل النظام، واحتلال الباب وجرابلس وعفرين وغيرها، نرى أنه سوف تضع الدول المعنية القوى المسيطرة على منطقة إدلب، أمام أمرين: إما قبول التذويب أو محاربة الكورد بدل النظام. وإلا فإنهم سيدفعون بقواعدها إلى القضاء على قياداتها قبل كل شيء والتي هي أدوات بيد قطر وتركيا، ومن ثم تغيير مواقفها ومنهجيتها، ومن ثم نقلهم إلى المناطق الكوردية.
محاربة الكورد هي الطريقة الوحيدة الممكنة التحرر من الصفقة التركية النظام، ومصالحها تدفع بها لتعادي ليس فقط الحراك الكوردي بل والشعب الكوردي تحت أغطية محاربة قوات قسد والإدارة الذاتية. وهذا ما سيبعدهم من العودة إلى حاضنتهم، وهو الشعب العربي السوري المعارض، والذي لا يزال شعار إسقاط النظام له صدى في وجدانهم. ولإنقاذ الذات من الخيانة الوطنية والقومية، عليهم العودة إلى الحاضنة الوطنية، ليس بدعم الميثاق التركي الملي، أو فتح الأبواب لتمرير مشروع العودة العثمانية الإسلامية، بل التصالح مع القوى والحراك الكوردي والعمل على إعادة عفرين والمناطق الكوردية الأخرى إلى أصحابها.
التصالح والتحالف مع القوات الكوردية وطلب المساعدة من دول التحالف وخاصة أمريكا، لطرد المنظمات التابعة للقوات التركية، ومن ثم تسليمها لأهاليها، لإدارة منطقتهم، هو الطريق الأصوب وربما الأوحد لإنقاذ الذات، وإلا فالصفقة التجارية بين الدول الأربع جارية، وستبدأ مسيرة دفنها سياسيا في موسكو وعسكريا ضمن جغرافية إدلب، أو ستتحول من منظمات عسكرية سورية إلى مجموعات مرتزقة مشابهة لقوات (فاغنر( الروسية، التي تحارب اليوم القوات الأوكرانية، أو سيقبعون في سجون النظام، أو سيشردون في الشتات.
الولايات المتحدة الأمريكية
11/3/2023م