هل القضية الكردية مسألة أمنية أم سياسية ؟

صلاح بدرالدين
 (ثم جمع السلطان سليم الأول رجال الحرب والعلماء والوزراء في مدينة أدرنة  في16 من شهر مارس 1514، وذكر لهم خطورة إسماعيل الصفوي في إيران، وأنه اعتدى على حدود الدولة العثمانية،) ومن حينها أي منذ معركة – جالديران – قبل ستة قرون كان الكرد وسيلة تستخدم لمصالح (الامن القومي) لهذا الطرف او ذاك، ثم اصبحوا في مرحلة لاحقة ضحية لمصالح (الامن القومي) للأطراف الأوروبية الثلاثة – فرنسا – انكلترا – روسيا، الموقعة على اتفاقية سايكس – بيكو عام ١٩١٦ لتوزيع مغانم الإمبراطورية العثمانية ومناطق النفوذ فيما بينها، كما تجاهل مسؤول شؤون المستعمرات البريطانية في الشرق – مارك سايكس، ورئيسه – ونستون تشرشل – الكرد واستحقاقهم بالحرية والاستقلال اسوة بالشعوب الأخرى حفاظا على مصالح (الامن القومي) للتاج البريطاني مع حكام الشعوب الأخرى، ومرة أخرى تناغمت مصالح ( الامن القومي ) لكل بلدان الغرب الاستعماري مع مصالح دولة – اتاتورك – وكيانات العراق، وسوريا في – لوزان – عام ١٩٢٣، على حساب كرد الشرق الأوسط، وحلمهم المشروع في الاستقلال.
خلال الحربين العالميتين، وبعد التحالف بين الشرق والغرب ضد النازية، والفاشية، والتوافق على تقسيم مناطق النفوذ تخلى السوفييت عن دعم القضية الكردية بحجة  الحفاظ على مصالح الامن الوطني السوفييتي، وعدم اثارة المتاعب مع الحلفاء الغربيين، وكانت النتائج الأولية سقوط  جمهورية مهاباد الكردستانية بعد احدى عشر شهرا من قيامها، وتهاوت اول تجربة في تحقيق الحلم الكردي في العصر الحديث،  حيث اجتمعت مصالح (الامن القومي) للجميع في ذلك. 
  وتوالت المحاولات الغربية في إطفاء أي بصيص امل من جانب كرد المنطقة، واقام الاحلاف العسكرية، والاتفاقيات الأمنية ( مثل حلف سعد اباد، وحلف بغداد، والسنتو، والناتو ووو) مع أنظمة الدول التي تقتسم الكرد ووطنهم التاريخي تحت شعارات ان امن تلك الأنظمة الحاكمة هو جزء لايتجزأ من امن دول الغرب خصوصا إنكلترا، وفرنسا، وامريكا لاحقا، وان الحركات الكردية التحررية في عداد أعدائها، وتشكل خطرا امنيا علىى مصالحها. 
في عام ١٩٧٥ تم القضاء على ثورة أيلول الكردستانية في العراق، بعد حصول  التكامل بين متطلبات (الامن القومي) لاكثر من طرف : الامريكان – السوفييت – نظام الشاه – النظم العربية الشوفينية خصوصا نظاما الدكتاتورين صدام وبومدين.
 الاتفاقات، واللقاءات الأمنية والدبلوماسية بين عواصم الدول الأربع (تركيا – ايران – سوريا – العراق) منذ بداية التسعينات عقدت بهدف (الحفاظ علىى الامن القومي) للأنظمة الأربعة، كما ان كل الغزوات العسكرية، والاجتياحات، والقصف، والحروب التدميرية، والحصار الاقتصادي، والحرمان من الحقوق، والتهجير  يتم تحت عنوان الدفاع عن الامن القومي التركي والإيراني والسوري والعراقي وكان الكرد ليس لهم امن قومي كما لغيرهم.
 قضايا الكرد، ونضالهم المشروع لرفع الاضطهاد، ونيل الحقوق كان ومازال من اختصاص الأجهزة الأمنية المخابراتية في الدول الأربعة، وليس الحكومات، والبرلمانات، والمؤسسات المدنية، وتخضع للاجراءات السرية، والكتمان، حيث يتم تنفيذ إجراءات مخالفة للقوانين، ترقى الى درجة جرائم ضد الإنسانية من بينها : التصفيات، وحروب الإبادة، والحرمان من كل الحقوق، والتهجير، وتغيير التركيب الديموغرافي.
 يتذكر مسؤولو الأحزاب الكردية والكردستانية الذين لجأوا الى دول الجوار او نسجوا علاقات، او تلقوا مساعدات مالية وعسكرية من أنظمة دمشق، وبغداد، وطهران، وانقرة، خلال العقود الخمسة الأخيرة كيف كانوا بضيافة الأجهزة الأمنية بتلك البلدان حصرا، وقد كنت اسمع مرارا من أصدقاء في الحركة الكردية بكردستان العراق ان علاقاتهم كانت محصورة بجهاز المخابرات العسكرية السورية، واحيانا الفرع الخارجي لامن الدولة، والامن السياسي، والمخابرات الجوية فيما بعد، وعندما كان يصل وفد قيادي لحزب او فصيل الى دمشق يلتقي أولا بمسؤولي الامن بسرية كاملة ثم يمر الى القيادة القومية ويشرب القهوة في مكتب (الأمين العام المساعد للقيادة القومية بحزب البعث – عبد الله الأحمر – ) ويجري الحديث في الشأن العام ثم يصدر بيان من طرف واحد وليس ثنائي، وفي اغلب الظن هكذا كان الامر في العواصم الأخرى.
 ولكن لماذا حصر الموضوع الكردي في أروقة الأجهزة الأمنية السورية ؟ لان عقيدة النظام الحاكم ترفض وجود القضية الكردية كقضية شعب وحقوق مشروعة، بل مجرد أداة لاستغلالها ضد خصومها وجيرانها، ومن ثم اختراق تنظيماتها واحزابها، واستثمار أي دعم لها لمصلحة (امنها القومي) هذا ما حصل خلا العقود الأخيرة ويحصل الان ولو باشكال أخرى.
  القضية الكردية السورية مازالت ملفا امنيا عسكريا، ففي حسابات الأنظمة والحكومات السورية عدم الاعتراف بوجود شعب من السكان الأصليين  يقيم على ارضه منذ القدم، بل عبارة عن مجموعة بشرية مهاجرة، ووجود الكرد خطر على الامن القومي العربي، وخلال تقديم مناضلي الحركة الكردية الى محكمة امن الدولة،والمحاكم العسكرية في ظل قانون الطوارئ، او سجنهم، كانت ومازالت التهمة الجاهزة منذ عهود ( المكتب الثاني وحتى الان، (خطر على امن الدولة)  و (الامن القومي)، (وقد نلت نصيبي من التهمتين مرة عندما حاكمونا امام محكمة امن الدولة العليا بدمشق عام ١٩٦٨ وصدر الحكم بالتهمة الأولى، والمرة الثانية لدى حرماني من الحقوق المدنية بقرار من نائب الحاكم العرفي وزير الداخلية – محمد عيد عشاوي – ١٩٦٩ استنادا الى التهمة الثانية).
  في مرحلة إدارة الضابط الأمني محمد منصورة للملف الكردي العام خلال ترأسه للمخابرات العسكرية بالقامشلي، تم الانتقال الى مرحلة عملية جديدة في تدشين (الطبيعة الامنية،  والنظرة الامنية – والمعالجات الامنية،  والعلاقات الأمنية، والاختراقات الأمنية، ولم تطرح يوما قضايا الكرد على وزارات الحكومات والبرلمانات، بل كانت ممنوعة التداول بالاعلام، وبسبب الطبيعة الكردية للمنطقة ولان قضيتهم أمنية فقد كان هذا الضابط هو الحاكم الاوحد، يمثل رئيسه حافظ الأسد، وكان مسؤولو غالبية الأحزاب الكردية في خدمته، يقيمون له الحفلات، حيث خاطبه احدهم بإحدى المناسبات : (سنرد لك الجميل بالجميل وكررها ثلاث مرات) .  
 منذ بداية الثورة السورية المغدورة اضيف الى التصنيف الأمني للقضية الكردية السورية من جانب النظام التصنيف العسكري أيضا وذلك بعد انتشار الفصائل المسلحة ل – ب ك ك – في عدد من المناطق، بموجب اتفاقات  تمت في السليمانية (٢٠١١ – ٢٠١٢) باشراف كل من  المرحوم جلال الطالباني، والمقبور قاسم سليماني.
طريقة تعامل (الأحزاب الشقيقة الكبرى) مع قضية الكرد السوريين 
  بسبب  غياب الاستراتيجية القومية، وتحكم الأحزاب بمصائر الكرد، وعدم التوافق بين تعبيرات الأجزاء الأربعة على مركز قومي واحد، او مرجعية مشتركة، فان معظم القوى التي تقودها الأحزاب الكلاسيكية تنطلق في مفاهيمها القومية من المنظور الذاتي – القطري – والمصلحة الحزبية الضيقة، ويتعامل مع كرد سوريا بحذر واضعا مصالحه فوق كل شيئ.
  ب ك ك – تخلى عن مجاله الجغرافي الطبيعي لاسباب عديدة  وينظر الى أجزاء كردستان الأخرى كمجال حيوي وجغرافيا لغزوها والسيطرة عليها ارضا وشعبا وخيرات ومصادر مالية، كما حاله الان مع كردستان سوريا، ويتعامل مع الكرد السوريين باعتبارهم وقودا بشريا عسكريا له، ومنبعا اقتصاديا، ومنذ عقود اعلن عن عدم وجود جزء من كردستان في سوريا على لسان قائده ( المفدى !)، وتبرأ من مقولة حق قرير مصير الشعوب، والابتعاد عن أي نضال قومي من اجل الحقوق، وهو يعتبر أيضا ان موضوع الكرد السوريين مدرج في القائمة الامنية العسكرية، وينتظر قرار المركز العسكري ل ب ك ك في قنديل، كما يدير قضايا الكرد السوريين عبر منظومات امنية تحت غطاء مراكز البحث، والمؤسسات الثقافية والإعلامية.
إقليم كردستان العراق 
بعد الانتقال من مرحلة الثورة الى مرحلة السلطة وبناء مؤسسات الدولة، تحولت قضية الكرد السوريين وحركتهم القومية (التي مازالت موضع حب واحترام شعب كردستان العراق بمختلف طبقاته واطيافه كما كانت منذ عهد الزعيم الراحل مصطفى بارزاني) الى مادة للمنافسة والاستئثار بين الأحزاب، كل يبحث عن توسيع نفوذه، من دون اغضاب النظام السوري، ومن المعلوم ان التعامل مع موضوع الكرد السوريين باسم الأحزاب وليس من خلال حكومة الإقليم، او مؤسسة الرئاسة، او البرلمان، ولكن عبر مؤسساتها الأمنية  وكانها تعتبر مثل الأنظمة الحاكمة ان قضية كرد سوريا مسالة حزبية – امنية، او يمكن لها بهذه الطريقة الناي بالنفس عن الالتزامات القومية تجاه شعب احوج مايكون الى الدعم والاسناد من اجل الإنقاذ وفي المقدمة ان يستقل بقراره السياسي  ويعيد بناء حركته،، لايكون تابعا لاحد قسرا او من خلال مصادر المال السياسي، ومما له دلالته العميقة ان مؤتمرات الأحزاب الكردستانية واجتماعات مكاتبها السياسية والمركزية لاتتضمن عادة في جدول الاعمال أي بند حول القضية القومية بالمنطقة عموما وقضية كرد سوريا على وجه الخصوص، كما لاتتضمن بياناتهما أي التزام معلن بهذا الشأن وهذه الحقيقة المؤسفة تسري على جميع الأحزاب الكردية في العراق وايران وتركيا، فقط الحركة السياسية الكردية السورية كانت واضحة في التزاماتها القومية، ومواقفها المبدئية،  منذ نشوئها وحتى قبل نحو عقدين، أي قبل تواجد – ب ك ك – وظهور أحزاب تعتمد على الخارج والمال السياسي.
من الواضح ان هذا الموضوع في غاية الأهمية والخطورة، ولا يمكن الإحاطة  به، واستخلاص الدروس حوله الا بمشاركة أصحاب الراي والفكر خصوصا بإقليم كردستان، والاجزاء الأخرى، ومن على منبر – كولان – ادعوهم جميعا الى المساهمة، والنقاش.
مادامت القضية الكردية في الشرق الأوسط في عداد المسائل الأمنية – العسكرية بنظر القريب والبعيد، والقوى الإقليمية والدولية، فانها ستكون معرضة في الحاضر والمستقبل للطعن بمصداقيتها السياسية، وأهدافها المشروعة، وحجب أي حل وطني ديموقراطي عنها، وتصفية الإنجازات التي تحققت حتىى الان خصوصا في كردستان العراق وبشكل اخص عندما ينتفي البعد القومي الحاضن في الجوار، ثم من السهولة بمكان  ادراجها في قوائم الإرهاب بحسب منطق وتعريف القوى السائدة، واستخدامها أيضا عسكريا وفي الوقت ذاته لأغراض وفائدة اجندات خارجية وضد الكرد تحديدا.
  على التعبيرات الحزبية الكردستانية إعادة النظر بكامل المسؤولية في الملف الكردي السوري، وتوضيح الموقف بكل شفافية من الكرد السوريين، وقضاياهم، بما في ذلك نوع العلاقة مع حركتهم السياسية، وقبل ذلك وخلاله على الكرد السوريين الاستيقاظ من غيبوبتهم، والبحث عن الذات، والشخصية المستقلة، واستعادة القرار، وتعزيز الدور القومي والوطني من جديد، ولن يتحقق ذلك الا من خلال إعادة بناء حركتهم السياسية، وتوحيدها، واستعادة شرعيتها عبر الطرق المدنية الديموقراطية وفي المقدمة: المؤتمر الكردي السوري الجامع.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…