وهي تروي وقائع من نشاط هذه المجموعات في الخطف والترويع للحصول على فدية من تجار المدينة وصناعييها ورجال أعمالها، قبل بدء المجابهات العسكرية.
هذا اضافة الى دور “خلية إدارة الأزمة” في هذه الأعمال.
غير بعيد من القصر القديم، يقوم منزل جميل أمامه حديقة، يملكه رجل حلبي من آل عجم العاملين في تجارة المواد الغذائية.
قبل سنوات وهب التاجر منزله هذا لقائد جهاز الامن العسكري في حلب، علي حمود، الذي صار لاحقاً وزيراً للداخلية السورية، فأنهى اقامته في المنزل الذي ظل مهجوراً، حتى قام مالكه بوهبه مجدداً – قبل ثلاث سنوات من بداية الثورة في آذار 2011 – الى رجل يدعى أحمد علي قزق ولقبه أبو علي قزق، علوي المذهب، وافد من جبلة الى حلب للعمل مديراً لأمن مؤسسة الاسكان العسكري وتاجر عقارات.
هذا قبل أن يصير وكيلاً لأعمال رامي مخلوف في حلب، اي وسيطاً مالياً واقتصادياً نافذاً بينه وبين تجار المدينة ورجال أعمالها.
في بدايات الثورة، سرعان ما تبيّن ان الوسيط هذا تحول منظِّماً لمجموعات الشبّيحة في حلب، وحوّل منزله مقراً لادارتهم وتسيير عملياتهم باسم “اللجان الشعبية” الذي سمّى به النظام السوري هذه المجموعات، وأوكل اليها “حماية الاهالي” مما يسمّيه “العصابات المسلحة”.
تشكلت هذه المجموعات من فئات ثلاث في حلب:
1- رجال العشائر النازلة على أطراف المدينة الشرقية، وعلى رأسها وأشهرها عشيرة آل بري.
ما قبل خمسينات القرن العشرين كانت هذه العشائر السنية البدوية تترحل بمواشيها في ريف حلب الشرقي، حيث تقتتل لتحصيل رزقها ومواردها، قبل مباشرتها أعمال تهريب المواشي والسلاح والمخدرات وفرض الخوات، الى أن أقام نظام حافظ الأسد حلفاً معها وثبّتها في أعمالها هذه منذ السبعينات، وأوكل الى عشيرة آل بري زعامتها وتصريف المنازعات في ما بينها.
2- السجناء من صغار المجرمين والمهرّبين، وأولئك الذين أُطلقوا من السجون بمراسيم عفو رئاسية في الأشهر الأولى من الثورة التي سمّى الرئيس بشار الاسد، في واحدة من اطلالاته الخطابية، المشاركين فيها “عصابات مسلحة”، وقال إن عديدها في سوريا يبلغ “65 ألفاً من المجرمين الذين يجب القضاء عليهم”.
العدد هذا، هو نفسه عدد السجناء الذين شملتهم مراسيم العفو الجمهوري، لتعيد أجهزة أمن النظام تأطيرهم وتنظيمهم في مجموعات الشبّيحة التي خُصَّت مدينة حلب بنصيب وافر منها لمنع أهاليها من التظاهر.
3- قوات حفظ النظام، وهي جهاز الشرطة الذي يستعمله النظام السوري في ضبط الأمن اثناء المباريات الرياضية، وفي تسيير التظاهرات والعراضات المؤيدة والموالية له.
في حلب، كما في سائر المدن السورية، تشكلت مجموعات الشبّيحة – “اللجان الشعبية” وفقاً لتسمية النظام – من هذه الفئات الثلاث، فبلغ عدد مجموعاتها في عاصمة سوريا التجارية والاقتصادية وفي ريفها القريب، حوالى 200 مجموعة تشبيح مدفوعة الأجر، تضم أكثر من 80 الف عنصر مسلح، من ضمنهم عناصر أجهزة الأمن المختلفة.
العدد الكبير هذا، هو الذي مكّن النظام من السيطرة الشديدة على حلب، ومن إضعاف قوة التظاهرات وعدم توسعها في أحياء المدينة.
المجموعات هذه تولّى تنظيمها وتمويلها في حلب أبو علي قزق، وجمعت في عديدها اشخاصاً في الأحياء على استعداد للمراقبة والوشاية، بينهم بعض من المسيحيين والكرد المتحمسين في ولائهم للنظام.
واذا كان هذا النظام قد اعتمد على قوات حفظ الأمن في قمع الحراك السلمي وتظاهراته في بدايات الثورة، فإنه سرعان ما زجّ بمجموعات الشبّيحة من العشائر والسجناء المطلق سراحهم في قمعه العنيف للتظاهرات، بعد توسعها في احياء المدينة، وخصوصاً في الجامعة، محتفظاً برجال أجهزة الأمن في خلفية المشهد، للزج بهم، لاحقاً، في العمليات الأمنية والعسكرية.
تمويل الشبّيحة
كان أجر الشبّيح في بدايات الثورة السلمية خمسة آلاف ليرة سورية في الشهر، ثم انخفض الى ألفين، في وقت قول الرئيس السوري في واحد من خطبه ان كل مشارك في “العصابات المسلحة” يحصل على اجر قدره الفا ليرة.
وهو في قوله هذا استعاد واقعة تمويل الشبّيحة وألصقها بالمتظاهرين، على مثال عمليات التضليل التي يعتمدها النظام مذهباً إعلامياً وحيداً.
في البدايات جرى تمويل مجموعات الشبّيحة، التي يرتفع اجرها في نهارات الجمعة حين تتسع التظاهرات وتتكاثف، من كبار تجار حلب وصناعييها ومستثمريها، الذين فرضت عليهم أجهزة الأمن خوّات وإتاوات.
فرق من رجال هذه الأجهزة، أخذت تجول على التجار والصناعيين والمستثمرين للحصول منهم على مبالغ محددة، قائلين لهم إن هذه المبالغ تُصرف على “اللجان الشعبية” التي تحميهم من “العصابات المسلحة”.
وكان يُقال للممولين إن هذه “اللجان” وضباط الأمن سوف يؤمّنون لهم حاجاتهم من المحروقات (المازوت) التي أخذ توزيعها يشحّ وترتفع أسعارها مع توسع الحراك الشعبي الاحتجاجي، اضافة الى وعدهم بتأمين زبائن لسلعهم التجارية والصناعية من العراق، بعد انكماش الطلب عليها في السوق السورية الداخلية.
لكن هذه المعادلة المعتمدة في تمويل الشبّيحة أخذت تختل وتنكسر مع اشتداد الأزمة الاقتصادية والاحتجاجات والتظاهرات التي كان النظام يَعِدُ الناس جميعاً ومموّلي شبّيحته بإنهائها سريعاً.
مع تزايد الوعود هذه شهراً بعد شهر، كانت الأزمة تشتدّ وتتعمق، فأخذ المموّلون يتذمرون متمنعين عن دفع المبالغ المفروضة عليهم، التي أخذت ترتفع كلما تزايد عديد مجموعات التشبيح.
ثم لم تلبث فئات شبابية من أبناء التجار والصناعيين والفئات المتوسطة في المدينة، أن أخذت تشارك في التظاهرات الاحتجاجية، وخصوصاً في الجامعة، اضافة الى مشاركتها في عمليات إغاثة النازحين من الأرياف الى حلب.
هكذا تضاءل تمويل الشبّيحة، فقرر النظام الأمني إطلاق يد مجموعاتهم للحصول على المال من النهب وعمليات الخطف التي سرعان ما استشرت في المدينة، وشملت أثرياء وميسورين من سكانها، وخصوصاً التجار والصناعيين.
في أيام كثيرة شمل الخطف عشرات من الرجال للحصول منهم ومن عائلاتهم على فدية لإطلاقهم.
ولأن المخطوفين في هذه الموجة كانوا غالباً من التجار والصناعيين الذين يفاوضهم الخاطفون، فإن الفدية التي أخذ يتقاضاها الخاطفون، لم تكن مرتفعة.
لذا لجأت مجموعات الشبّيحة الى موجة جديدة من الخطف أشد وقعاً وإرعاباً، إذ شملت أبناء الاثرياء وأطفالهم الذين لن يتهاون أهلهم في دفع الفدية العالية المطلوبة لإنقاذهم.
ذلك أن المفاوضة مع التاجر أو الصناعي المخطوف نفسه تمكّنه من مساومة الخاطفين وخفض الفدية، وهذا ما يعجز عنه عجزاً تاماً في حال خطف ابنه الشاب أو طفله، مما يعرّضه لامتحان مروع في عاطفته الأبوية، ويعرّض زوجته، والدة المخطوف، لامتحان أشد ترويعاً في عاطفتها الأمومية.
هكذا شمل الرعب فئات واسعة من أهالي المدينة، بينهم أصحاب المهن الحرة من أطباء ومحامين ومهندسين، فتزايدت عمليات نزوح هؤلاء من المدينة، خوفاً من خطف أبنائهم وأطفالهم، بعدما كانت فئات واسعة منهم مؤيدة لحركة الاحتجاج والتظاهر السلمية ومتضامنة معها، قبل تحوّل الثوار الى النشاط المسلح.
المحافظة والسبيل
في هذين الإطار والوقت، وفد الى حلب قادة من “خلية إدارة الأزمة”، بينهم آصف شوكت وهشام بختيار، فاجتمع الوفد هذا في غرفة الصناعة والتجارة في المدينة، لمفاوضة التجار والصناعيين، وإقناعهم بعدم مغادرة المدينة، لقاء وقف عمليات الخطف والترويع التي يتعرض لها أبناؤهم وأطفالهم.
بعد ذلك الاجتماع الذي سبق عملية اغتيال رجال تلك “الخلية” في دمشق، تدنّت عمليات الخطف في حلب، لكنها عادت الى سابق عهدها، وأقوى، بعد عملية الاغتيال التي شكلت منعطفاً في تحول التظاهرات والاحتجاجات السلمية في حلب، مجابهات مسلحة مع الجيش وأجهزة الأمن والشبّيحة.
قبل مدة من ظهور اسم “الجيش الحر” ومجموعاته المسلحة في حلب، تعرّض منزل أبو علي لهجوم مسلح في يوم من أيام كانون الثاني 2012، فجرى إطلاق نار كثيف وحصلت مجابهات حول المقر وفي الشارع.
الأرجح أن المهاجمين استهدفوا في عمليتهم اغتيال أبو علي قزق الذي يبدو أنه نجا من العملية.
لكن اللافت أن الهجوم على المقر، أدى الى التخلي عن استعمال المنزل مقراً للشبّيحة، وغابت من حوله ومن الشارع المظاهر والحواجز الأمنية، واختفى أبو علي قزق.
كان الهدف من التخلي عن المقر واختفاء الرجل بعد العملية، المحافظة على الهدوء في الشارع وفي حيَّي المحافظة والسبيل المتجاورَين والراقيين في حلب.
فالحيَّان هذان تسكنهما فئات اجتماعية مستقرة من التجار وكبار الموظفين والمحامين والاطباء، اضافة الى بعض مدرّسي الجامعة.
فاستمرار منزل قزق مقراً لإدارة الشبّيحة بعد عملية الهجوم عليه، كان سيجرُّ عمليات أخرى مماثلة، مما يؤدي الى خوف سكان الحيّين وإرعابهم وإقدامهم على النزوح الذي يسمح لمقاتلي الثوار بالتسلّل اليهما واستعمالهما في عمليات الكرّ والفرّ على الشبّيحة في مقرّهم.
لم يستمر طويلاً الهدوء الحذِر والقلِق الذي ساد في الحيّين بعد وقف تجميع الشبّيحة في المقر وفرار منظّم عملياتهم، على أمل من النظام أن يبقيهما محيّدين وآمنين من دون إثارة حفيظة سكانهما وتذمرهم وسخطهم ورعبهم.
فما إن بدأت المجابهات العسكرية العنيفة بين وحدات من جيش النظام ومجموعات “الجيش الحر” التي ظهرت في الأحياء الشعبية الفقيرة والمكتظة مثل صلاح الدين وسيف الدولة في شرق حلب، وبدأ جيش النظام يقصف المدينة من خارجها بمدفعية الميدان والطائرات الحربية والمروحيات، حتى دب الذعر والرعب في معظم أحياء المدينة، وأخذت موجات النزوح تشمل سكان المحافظة والسبيل.
المصدر: ملحق النهار