كلّما ظنّ السياسيّ أنه يمتلك الحقيقة كلّها، يحتكرها كملكية خاصة، غاصّ في التّيه عميقاً، وعندما يجزم بأنّه يسير في الاتجاه الصّحيح، والآخرون قد فقدوا الصّواب المضيء بوصلةً لطريقه، فذلك غشاوة عاتمةٌ تمنعُ المرء من الرؤية حتى في وضح النّهار.
ذلك هو حال الصّديق والعزيز خورشيد عليكا في محاولة تنظيرية لم يحقّق فيها النّجاح.
يتّهم الصديق خورشيد الأحزاب الكردية المطالبة باستمرارية المجلس وعقد مؤتمره القادم من خلال توافقٍ يحافظ على هذا الكيان الذي تنخر جسمه عللٌ غامضة، وواضحة، بأنّها تعطّل المجلس ودوره السياسي، واصفاً إياها بالصغيرة (ذكر تسعة أحزاب بدون تسمية) لا أستطيع اقتباس الدليل من مقاله لأنّ جملته الأولى طويلة جداً وناقصة من حيث السند القاعدي، والعنوان خير اقتباس.
لا أطول في الدفاع عن التوافق، فقد يكون خيراً في مكان، وشراً في مكانٍ آخر (صناديق الاقتراع)، لكن عندما نفتقد الحل الأمثل نلجأ إليه كمخرجٍ تنظيمي للمشكلة، وفي المراحل الحساسة يكون التوافقُ السبيل الصحيح للخروج من النّفق الذي وقعنا فيه دون أن يكون لنا دور حفره أو تأزيمه.
والتوافق السياسيّ هو التفاهمُ على رؤية مشتركة في حدّها الأدنى بين أكثر من كيانٍ سياسيّ.
الأمر الثاني الذي يتحدّث الكاتب عنه مسهباً هو تقسيمه الأحزاب الكردية إلى أحزابٍ كبيرة ثقيلة جماهيرية تمتلك الإرادة في تحرير وتوحيد كردستان، وأخرى صغيرة لا تمتلك الكادر البشري والقدرة المالية ومعطّلة لآليات اتفاقية هولير، لأنها متفرجة وغير مبالية وفق الوصف الذي يسوقه الأخ خورشيد.
لا أنكر أنّ هناك أحزاباً لا يتجاوز عددُ أعضائها أصابعَ الإنسان (اليدين والرجلين) فهناك أحزاب لها كوادر بشرية منتشرة في المناطق الكردية، وبكثافة، وأخرى لها وزن ثقيل في منطقة ووزن ريشة في أخرى.
لكن السؤال: أينَ تصنّف في أي فئة؟
وما المقياس الذي تستخدمه في تصنيف الأحزاب؟
والسؤال الأهم: دخلت منطقتنا مرحلة خطرة، بات الكرد كلّهم فيها على المحك (وجود أو عدم وجود) وتطرحُ مسألة الأحزاب الجماهيرية والصغيرة؟ وكأن قضية (التوافق أو التمثيل النسبي) هي التي ستنقذ الكرد من ويلات الدمار التي تحرِقُ الأخطر واليابس.
فإذا كنتَ تمتلك الحزب الكبير والثقيل ذات القاعدة الجماهيرية لماذا تقف حائراً أمام الصغيرة؟
فالحزب الجماهيري ومن منطلق الحفاظ على وحدة الموقف والمصلحة العليا عليه أن يطرح برنامجاً سياسياً وخطة عملٍ، فإنْ التزمت الصغيرة بهما يكون الأمر جيداً، أما إذا عرقلت العمل السياسي وعطّلت آليات قيادة الجماهير فعلى الحزب الثقيل كسحهم، واجتياح قواعدهم (إن وجدت).
أحبّ أن أنوّه للأخ خورشيد بأنّ اتفاقية هولير جاءت مشوّهة خلقة، ولا أحد يملك القدرة الإلهية لجعلها مخلوقاً سليما، فتوقيع الأخ إسماعيل حمي سكرتير (يكيتي) كان بداية الفشل، لأنه لم يكن يملك صلاحية التوقيع، ولم يكن مخوّلا من الهيئة التنفيذية للتوقيع على اتفاقية تحدّد مصير المجلس والشعب الكردي، وتوقيعه (تحت الإحراج حسب وصفه) جعل المجلس رهينة توازناتٍ عسكرية وسياسية، تتداخل في ضبطها قوى محلية وإقليمية، وجعل أعضاء المجلس وأحزابه (الثقيلة والخفيفة) شهودَ صمتٍ أمام موسيقى الانهيار.
ولا ننسى أنّ نشوة التوقيع على اتفاقية هولير دفعت (الكبيرة، إذا كانت كبيرة فعلاً) إلى محاولة الاستفراد بالقرارات، والاستئثار بالمجلس كملكية خاصة، تقليداً لخطى التيه في الأنظمة الشّمولية، وتعطّلت العربة في صحراء قفراء، ليضع ساسة العربة وسائسوها أحزمتهم ويدفنوا وجوههم بين أيديهم بلا ندم.
فإذا كانت الأحزاب العملاقة لا تستطيع القيام بدورها القومي والوطني لأن الأقزام تعطلّها، لماذا لا تحاول تهميشها جانباً والقفز فوقها لأنّ المصلحة القومية العليا أهم من رضا الصغيرة اللامبالية.
ثمّ من قال أنّ الحزب الذي يسابق النجوم، ويغنّي على التمثيل النسبي (رغم موافقتي الشخصية على المبدأ) يملك القدرة الجماهيرية ويجتاح المدن؟؟؟ لأنّ الخارطة الحزبية تفصح بلا خجل بأنه ينتشر في مناطق محددة، ومناطق أخرى كاملة لا تعرف اسمه.
المناطق الكردية تحترق وأنت تناقش الدور السلبي للأحزاب الصغيرة، وفتح الفتوح للأحزاب الكبيرة، هل تريد النساء تزغرد لفتوحاتكم في سري كانيه؟