هوشنك بروكا
كان من الصعب الحديث في الأشهر الأولى من الإنتفاضة السورية عن سيناريو “تفتيت” أو “تقسيم” أو “تفكيك” سوريا، فذلك كان “خطٌاً أحمراً”، على مستوى المعارضة والموالاة، والداخل السوري وخارجه على السواء.
لكن الحديث الآن عن هكذا سيناريو، خصوصاً بعد تسليح الثورة، وولادة “الجيش السوري الحرّ”، الذي هو في الحقيقة، كما يقول لسان حاله الكثير والمتعدد، مجموعة من “الجيوش السنية” غير الحرّة، أصبح ليس ممكناً فحسب، وإنما قابلاً لأكثر من جدلٍ، وأكثر من توقّع أيضاً.
لكن الحديث الآن عن هكذا سيناريو، خصوصاً بعد تسليح الثورة، وولادة “الجيش السوري الحرّ”، الذي هو في الحقيقة، كما يقول لسان حاله الكثير والمتعدد، مجموعة من “الجيوش السنية” غير الحرّة، أصبح ليس ممكناً فحسب، وإنما قابلاً لأكثر من جدلٍ، وأكثر من توقّع أيضاً.
سيناريو “التفتيت” هذا، على الرغم من استبعاد الكثير من المحللين لوقوعه، بات متوقعاً لأكثر من عامل أو سبب داخلي وخارجي(إقليمي ودولي).
خصوصاً وأن تاريخ اللحمة السورية “ما فوق الطائفية”، الذي شهد انحيازاً واضحاً للوطن ضد الطائفة، وللجغرافيا السورية ضد الجغرافيا الطائفية أو الإثنية، في ثورات عشرينيات القرن الماضي، بات من الصعب أن يعيد نفسه اليوم.
لعل إسرائيل الجارة الجنوبية لسوريا، المحتلة للجولان، ومن ورائها الغرب(أميركا+أوروبا)، ناهيك عن العامل الإقليمي المغذي لأكثر من حربٍ بالوكالة، هي أحد أهم العوامل الخارجية المشجعة ل”تفتيت” و”تقسيم” و”شرذمة” سوريا.
فمن مصلحة إسرائيل التي لم توّقع حتى الآن معاهدة سلام مع سوريا، أن تبقى هذه الأخيرة ضعيفةً مفككة.
إسرائيل، لا تتمنى لهذا الضعف والتفكيك والتفتيت لسوريا أن يكون فحسب، وإنما ستسعى لذلك بكلّ ما أوتيت من قوة أيضاً، لتحقيق هكذا سيناريو.
وربما من هذا الباب، يمكن فهم إعلان إسرائيل الرسمية في الآونة الأخيرة استعدادها لإستقبال العلويين الفاريّن من الإضطهاد في الجولان، إذما سقط بشار الأسد.
إستعداد إسرائيل لاستقبال العلويين “المضطهَدين” مستقبلاً، يعني ضمناً استقبالها لسوريا “مضطهَدة” ضد سوريا “مضطهِدة”، أو ل”سوريا علوية” ضد “سوريا سنية”.
فلا إسرائيل ولا الغرب من ورائها، يريدان لسوريا القادمة المجهولة المستقبل حتى الآن، خصوصاً بعد “أسلمة” الثورة السورية وعسكرتها، أن تكون دولةً قوية موّحدةً أرضاً وشعباً.
ولا ننسى أنّ الخوف على إسرائيل ومستقبلها كجارة جنوبية لسوريا، كان ولا يزال أحد أهم الأسباب التي وقفت ولا تزال وراء “تأجيل” الثورة السورية ونزيف الدم السوري المؤجل إلى أن يشاء الله.
أما على مستوى الداخل(وهذا هو الأخطر، حيث يكمن بيت القصيد) فطبيعة النسيج السوري، القومي، والإثني، واللغوي، والديني، والمذهبي الكثير والمتعدد يشكّل هو الآخر، أرضية جدّ خصبة لهكذا سيناريوهات متوقعة وممكنة.
هذا ناهيك عن أن طبيعة القتل والقتل المضاد، الذي تعيشه سوريا وثورتها منذ حوالي سنة ونيف، وحضور بعض الجماعات الجهادية الإسلامية المسلحة في مشهد الثورة السورية بقوة، قد زاد من طين الصراع في سوريا بلّةً.
من هنا لا يزال الإختلاف حيناً والخلاف أحياناً أخرى على قادم هوية سوريا قائماً ومثار جدلٍ كبير، بين أقطاب مختلف المعارضات السورية.
فمنها من تصرّ على “سوريا، جمهوريةً عربية”، ومنها من تريد لسوريا القادمة أن تكون جمهوريةً “كثيرةً”، اتحادية، فيدرالية، مفتوحة على كلّ مكوناتها.
ومنها من تريدها “دولةً دينية في زيّ مدنيّ”، يكون فيها الإسلام هو الحل، أو يكون دستور الله في السماء هو دستور سوريا على الأرض.
ومنها من تريدها دولةً ديمقراطية مدنيةً علمانية تفصل بين “دولة الله السماوية” و”دولة الإنسان الوضعية”، يكون فيها ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
فعلى الرغم من تمسك الكلّ من أهل المولاة والمعارضة، على السواء، ب”سوريا واحدة” ل”لشعب واحد”، على مستوى الشعار، إلا أنّ حقيقة “حدود الدّم” التي لا تزال تحكم خريطة الموزاييك السوري المتعدد، تقول بعكس ذلك.
فما يجمع العرب السنة، ليس هو ذاته ما يجمع العلويين، ولا حتى الدروز، وما يجمع هؤلاء كعرب، ليس هو ذاته ما يجمع الأكراد والسريان والآشوريين والتركمان والأرمن.
أهل المعارضة، إذن، كأهل النظام، رغم تمسكهم، كشعار، بوحدة سوريا، أرضاً وشعباً، تاريخاً وثقافةً.
إلا أنّ المعارضة السورية، كما سبق وأشرنا إليها في مناسبات أخرى كثيرة، هي معارضات، فإجماعها(أو الأصح شبه إجماعها) على إسقاط النظام، لا يعني كلّ الإجماع بينها على كلّ شيء، خصوصاً هوية سوريا القادمة.
فبقدر إجماعها على “سوريا واحدة من دون نظام الأسد” هناك ما يفرّقها أيضاً، في سوريا كثيرة متعددة، تعيش في حقيقتها بهويات متباعدة.
كلّ معارضة لا تزال تبكي على “هويتها”، قبل بكائها على “الهوية السورية”، وعلى “حدود دمها” قبل بكائها على حدود سوريا ك”وطن نهائي” يجمع الجميع.
لا شكّ في أنّ النظام السوري كان أولُ من روّج لسيناريو “التفتيت” و”التطييف”، واشتغل عليه، ليل نهار، وعبر أكثر من قناة أمنية واستخبارية، فضرب عن سابق قصد وترصد “شعبه” العلوي ب”الشعب” السني، وهذا الأخير ب”الشعوب” والطوائف السورية الأخرى، لتصبح سوريا من أقصاها إلى أقصاها، أرضاً خصبة لصراع ملوك الطوائف.
أول حلقات هذا المسلسل الطائفي، الذي كتب له السيناريو النظام نفسه، ومثلته وأخرجته أدواته وأجهزته الأمنية والإستخبارية والتشبيحية، بدأت في حمص عاصمة الثورة السورية، خصوصاً في مناطق التماس بين العلويين والسنة من جهة، وبين هؤلاء والمسيحيين من جهة أخرى، لتنتشر من ثم وتمتد إلى مناطق سورية أخرى، مثل دمشق واللاذقية وبانياس وإدلب وحماة.
هكذا نجح النظام إلى حدٍّ كبير في صناعة الطائفية والطائفية المضادة، بضرب السوريين بالسوريين، وطوائفهم ببعضها البعض، ليوهم العالم ويضلله، كعادته المقيتة، بأنّ القضية ليست قضية شعب ضد نظام، وإنما هي “حرب كونية، سلفية، وهابية” على سوريا، لتقسيمها وتفتيتها إلى “إمارات إسلامية”، حسب إسطوانته.
بقدر نجاح النظام في صناعة هذه الفتنة بين صفوف الشعب السوري، عبر تحويله إلى شعوب متضادة لا بل متقاتلة، سقطت المعارضات السورية كلّها في امتحانها الثوري، وفشلت فشلاً ذريعاً في التصدي لهذه الفتنة، هذا ناهيك عن فشلها الكبير في توحيد صفوفها، ضمن جسم سياسي موّحد، يمثّل الثورة السورية في الداخل والخارج.
أول الفشل، وأول هذا السقوط السياسي للمعارضات السورية بكلّ تياراتها وأطيافها وتوجهاتها القومية والإسلامية والعلمانية والليبرالية، بدأ بإنجرار الثورة إلى فخ السلاح العشوائي غير المنضبط وغير الموّحد والتابع لكتائب أو “جيوش” غير متفقة أصلاً، وغير متوافقة فيما بينها، إلا على شيء واحد، ألا وهو “إسقاط النظام”.
بالطبع، لا يمكن إنكار حقيقة أنّ “الجيش السوري الحرّ” هو نتيجة من نتائج الثورة السورية، أما السبب الأساس الذي أدى إلى ولادته فهو فاشية النظام نفسه، وعنفه الممنهج والخارج عن كلّ معقولٍ ضد شعبه.
تسلحّت الثورة، لأنّ النظام أبى أن تستمر الثورة سلميةً.
عنف النظام ضد الثورة وأهلها، هو الذي أدى إلى العنف المضاد الذي تشهده سوريا منذ ما يزيد على سنةٍ ونيف.
العنف ولّد العنف، والسلاح صنع السلاح، وحرب النظام على شعبه أدخل البلاد في أتون المزيد من حرب الشعب ضد الشعب.
وهنا تكمن الطامة السورية الكبرى.
الحقيقة السورية المرّة، التي باتت من الصعوبة بمكان الهروب منها، أو القفز عليها، هي دخول سوريا في حرب أهلية حقيقية، ربما غير قصيرة الأمد، ما يعني سقوط سوريا وشعبها في فخ النظام، قبل أن يسقط هذا الأخير في فخّ الشعب الذي يطالب منذ ما يقارب ال 18 شهراً بإسقاطه.
الشعب السوري، لم يعد، بكلّ أسف، بعد ما يقارب السنة والنصف من الدم والدم المضاد شعباً واحداً أو موّحداً كأضعف الإيمان.
وإنما آل بحكم قانون “الدم بالدم والبادي أظلم” إلى شعوب وقبائل وطوائف وجماعات، بات من الصعب عليها أن تتعارف فيما بينها، في سوريا واحدة كان متعارف عليها.
والمعارضات السورية المفككة والمهرهرة، بأجنحتها السياسية والعسكرية، هي أكبر شاهد على ذلك.
السوريون، بمختلف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم، باتوا يخافون بعضهم البعض، أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
كل الشعب السوري بات يخاف كله.
الكلّ بات يحسب حساباً للكلّ.
ربما يكون من السهل أن تطلق هذه المعارضة السورية أو تلك شعار “وحدة سوريا، أرضاً وشعباً”، وأن تضع تحته حزمة خطوط حمر، لكن الحقيقة السورية، ناهيك عن الإقليمية والدولية، تقول بكلّ أسف، بسوريا مختلفة وسوريين مختلفين تماماً.
سوريا باتت، شئنا أم أبينا، بحكم الإستقطاب الطائفي والإثني، الذي تعيشه منذ حوالي سنة ونصف، مرشحةً أكثر من أيّ وقتٍ مضى، للتفتيت والتفكيك والإستنزاف والتآكل من الداخل.
التاريخ فيها الآن يتفتت، والإجتماع يتفتت، والدين يتفتت، والثقافة تتفتت، والهوية تتفتت.
سوريا الإنسان تتفتت الآن من أقصاها إلى أقصاها، روحاً وجسداً.
سوريا باتت الآن قاب قاب قوسين أو أدنى من السقوط في الخراب: خراب الإنسان، والزمان، والمكان.
سوريا المكان تخسر الآن سوريا الزمان وسوريا الإنسان.
قال يسوع ذات محنةٍ: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه أو أهلكها”؟
والسؤال السوري المطروح بقوة، يسوعياً، اليوم، هو: ماذا ينفع السوري لو ربح سوريا المكان كلها، وخسر سوريا الإنسان؟
hoshengbroka@hotmail.com
خصوصاً وأن تاريخ اللحمة السورية “ما فوق الطائفية”، الذي شهد انحيازاً واضحاً للوطن ضد الطائفة، وللجغرافيا السورية ضد الجغرافيا الطائفية أو الإثنية، في ثورات عشرينيات القرن الماضي، بات من الصعب أن يعيد نفسه اليوم.
لعل إسرائيل الجارة الجنوبية لسوريا، المحتلة للجولان، ومن ورائها الغرب(أميركا+أوروبا)، ناهيك عن العامل الإقليمي المغذي لأكثر من حربٍ بالوكالة، هي أحد أهم العوامل الخارجية المشجعة ل”تفتيت” و”تقسيم” و”شرذمة” سوريا.
فمن مصلحة إسرائيل التي لم توّقع حتى الآن معاهدة سلام مع سوريا، أن تبقى هذه الأخيرة ضعيفةً مفككة.
إسرائيل، لا تتمنى لهذا الضعف والتفكيك والتفتيت لسوريا أن يكون فحسب، وإنما ستسعى لذلك بكلّ ما أوتيت من قوة أيضاً، لتحقيق هكذا سيناريو.
وربما من هذا الباب، يمكن فهم إعلان إسرائيل الرسمية في الآونة الأخيرة استعدادها لإستقبال العلويين الفاريّن من الإضطهاد في الجولان، إذما سقط بشار الأسد.
إستعداد إسرائيل لاستقبال العلويين “المضطهَدين” مستقبلاً، يعني ضمناً استقبالها لسوريا “مضطهَدة” ضد سوريا “مضطهِدة”، أو ل”سوريا علوية” ضد “سوريا سنية”.
فلا إسرائيل ولا الغرب من ورائها، يريدان لسوريا القادمة المجهولة المستقبل حتى الآن، خصوصاً بعد “أسلمة” الثورة السورية وعسكرتها، أن تكون دولةً قوية موّحدةً أرضاً وشعباً.
ولا ننسى أنّ الخوف على إسرائيل ومستقبلها كجارة جنوبية لسوريا، كان ولا يزال أحد أهم الأسباب التي وقفت ولا تزال وراء “تأجيل” الثورة السورية ونزيف الدم السوري المؤجل إلى أن يشاء الله.
أما على مستوى الداخل(وهذا هو الأخطر، حيث يكمن بيت القصيد) فطبيعة النسيج السوري، القومي، والإثني، واللغوي، والديني، والمذهبي الكثير والمتعدد يشكّل هو الآخر، أرضية جدّ خصبة لهكذا سيناريوهات متوقعة وممكنة.
هذا ناهيك عن أن طبيعة القتل والقتل المضاد، الذي تعيشه سوريا وثورتها منذ حوالي سنة ونيف، وحضور بعض الجماعات الجهادية الإسلامية المسلحة في مشهد الثورة السورية بقوة، قد زاد من طين الصراع في سوريا بلّةً.
من هنا لا يزال الإختلاف حيناً والخلاف أحياناً أخرى على قادم هوية سوريا قائماً ومثار جدلٍ كبير، بين أقطاب مختلف المعارضات السورية.
فمنها من تصرّ على “سوريا، جمهوريةً عربية”، ومنها من تريد لسوريا القادمة أن تكون جمهوريةً “كثيرةً”، اتحادية، فيدرالية، مفتوحة على كلّ مكوناتها.
ومنها من تريدها “دولةً دينية في زيّ مدنيّ”، يكون فيها الإسلام هو الحل، أو يكون دستور الله في السماء هو دستور سوريا على الأرض.
ومنها من تريدها دولةً ديمقراطية مدنيةً علمانية تفصل بين “دولة الله السماوية” و”دولة الإنسان الوضعية”، يكون فيها ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
فعلى الرغم من تمسك الكلّ من أهل المولاة والمعارضة، على السواء، ب”سوريا واحدة” ل”لشعب واحد”، على مستوى الشعار، إلا أنّ حقيقة “حدود الدّم” التي لا تزال تحكم خريطة الموزاييك السوري المتعدد، تقول بعكس ذلك.
فما يجمع العرب السنة، ليس هو ذاته ما يجمع العلويين، ولا حتى الدروز، وما يجمع هؤلاء كعرب، ليس هو ذاته ما يجمع الأكراد والسريان والآشوريين والتركمان والأرمن.
أهل المعارضة، إذن، كأهل النظام، رغم تمسكهم، كشعار، بوحدة سوريا، أرضاً وشعباً، تاريخاً وثقافةً.
إلا أنّ المعارضة السورية، كما سبق وأشرنا إليها في مناسبات أخرى كثيرة، هي معارضات، فإجماعها(أو الأصح شبه إجماعها) على إسقاط النظام، لا يعني كلّ الإجماع بينها على كلّ شيء، خصوصاً هوية سوريا القادمة.
فبقدر إجماعها على “سوريا واحدة من دون نظام الأسد” هناك ما يفرّقها أيضاً، في سوريا كثيرة متعددة، تعيش في حقيقتها بهويات متباعدة.
كلّ معارضة لا تزال تبكي على “هويتها”، قبل بكائها على “الهوية السورية”، وعلى “حدود دمها” قبل بكائها على حدود سوريا ك”وطن نهائي” يجمع الجميع.
لا شكّ في أنّ النظام السوري كان أولُ من روّج لسيناريو “التفتيت” و”التطييف”، واشتغل عليه، ليل نهار، وعبر أكثر من قناة أمنية واستخبارية، فضرب عن سابق قصد وترصد “شعبه” العلوي ب”الشعب” السني، وهذا الأخير ب”الشعوب” والطوائف السورية الأخرى، لتصبح سوريا من أقصاها إلى أقصاها، أرضاً خصبة لصراع ملوك الطوائف.
أول حلقات هذا المسلسل الطائفي، الذي كتب له السيناريو النظام نفسه، ومثلته وأخرجته أدواته وأجهزته الأمنية والإستخبارية والتشبيحية، بدأت في حمص عاصمة الثورة السورية، خصوصاً في مناطق التماس بين العلويين والسنة من جهة، وبين هؤلاء والمسيحيين من جهة أخرى، لتنتشر من ثم وتمتد إلى مناطق سورية أخرى، مثل دمشق واللاذقية وبانياس وإدلب وحماة.
هكذا نجح النظام إلى حدٍّ كبير في صناعة الطائفية والطائفية المضادة، بضرب السوريين بالسوريين، وطوائفهم ببعضها البعض، ليوهم العالم ويضلله، كعادته المقيتة، بأنّ القضية ليست قضية شعب ضد نظام، وإنما هي “حرب كونية، سلفية، وهابية” على سوريا، لتقسيمها وتفتيتها إلى “إمارات إسلامية”، حسب إسطوانته.
بقدر نجاح النظام في صناعة هذه الفتنة بين صفوف الشعب السوري، عبر تحويله إلى شعوب متضادة لا بل متقاتلة، سقطت المعارضات السورية كلّها في امتحانها الثوري، وفشلت فشلاً ذريعاً في التصدي لهذه الفتنة، هذا ناهيك عن فشلها الكبير في توحيد صفوفها، ضمن جسم سياسي موّحد، يمثّل الثورة السورية في الداخل والخارج.
أول الفشل، وأول هذا السقوط السياسي للمعارضات السورية بكلّ تياراتها وأطيافها وتوجهاتها القومية والإسلامية والعلمانية والليبرالية، بدأ بإنجرار الثورة إلى فخ السلاح العشوائي غير المنضبط وغير الموّحد والتابع لكتائب أو “جيوش” غير متفقة أصلاً، وغير متوافقة فيما بينها، إلا على شيء واحد، ألا وهو “إسقاط النظام”.
بالطبع، لا يمكن إنكار حقيقة أنّ “الجيش السوري الحرّ” هو نتيجة من نتائج الثورة السورية، أما السبب الأساس الذي أدى إلى ولادته فهو فاشية النظام نفسه، وعنفه الممنهج والخارج عن كلّ معقولٍ ضد شعبه.
تسلحّت الثورة، لأنّ النظام أبى أن تستمر الثورة سلميةً.
عنف النظام ضد الثورة وأهلها، هو الذي أدى إلى العنف المضاد الذي تشهده سوريا منذ ما يزيد على سنةٍ ونيف.
العنف ولّد العنف، والسلاح صنع السلاح، وحرب النظام على شعبه أدخل البلاد في أتون المزيد من حرب الشعب ضد الشعب.
وهنا تكمن الطامة السورية الكبرى.
الحقيقة السورية المرّة، التي باتت من الصعوبة بمكان الهروب منها، أو القفز عليها، هي دخول سوريا في حرب أهلية حقيقية، ربما غير قصيرة الأمد، ما يعني سقوط سوريا وشعبها في فخ النظام، قبل أن يسقط هذا الأخير في فخّ الشعب الذي يطالب منذ ما يقارب ال 18 شهراً بإسقاطه.
الشعب السوري، لم يعد، بكلّ أسف، بعد ما يقارب السنة والنصف من الدم والدم المضاد شعباً واحداً أو موّحداً كأضعف الإيمان.
وإنما آل بحكم قانون “الدم بالدم والبادي أظلم” إلى شعوب وقبائل وطوائف وجماعات، بات من الصعب عليها أن تتعارف فيما بينها، في سوريا واحدة كان متعارف عليها.
والمعارضات السورية المفككة والمهرهرة، بأجنحتها السياسية والعسكرية، هي أكبر شاهد على ذلك.
السوريون، بمختلف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم، باتوا يخافون بعضهم البعض، أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
كل الشعب السوري بات يخاف كله.
الكلّ بات يحسب حساباً للكلّ.
ربما يكون من السهل أن تطلق هذه المعارضة السورية أو تلك شعار “وحدة سوريا، أرضاً وشعباً”، وأن تضع تحته حزمة خطوط حمر، لكن الحقيقة السورية، ناهيك عن الإقليمية والدولية، تقول بكلّ أسف، بسوريا مختلفة وسوريين مختلفين تماماً.
سوريا باتت، شئنا أم أبينا، بحكم الإستقطاب الطائفي والإثني، الذي تعيشه منذ حوالي سنة ونصف، مرشحةً أكثر من أيّ وقتٍ مضى، للتفتيت والتفكيك والإستنزاف والتآكل من الداخل.
التاريخ فيها الآن يتفتت، والإجتماع يتفتت، والدين يتفتت، والثقافة تتفتت، والهوية تتفتت.
سوريا الإنسان تتفتت الآن من أقصاها إلى أقصاها، روحاً وجسداً.
سوريا باتت الآن قاب قاب قوسين أو أدنى من السقوط في الخراب: خراب الإنسان، والزمان، والمكان.
سوريا المكان تخسر الآن سوريا الزمان وسوريا الإنسان.
قال يسوع ذات محنةٍ: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه أو أهلكها”؟
والسؤال السوري المطروح بقوة، يسوعياً، اليوم، هو: ماذا ينفع السوري لو ربح سوريا المكان كلها، وخسر سوريا الإنسان؟
hoshengbroka@hotmail.com