صالح بوزان
منذ الانتداب الفرنسي على سوريا ولغاية سيطرة حزب البعث للسلطة كانت المظاهرات تخرج من الشوارع الرئيسية والجامعات والمدارس وتتجه إلى الساحات العامة.
واشتهر باب الحديد وباب النصر في حلب بالمظاهرات المنددة للاحتلال الفرنسي, وضد الحكومات الديكتاتورية في سوريا بعد الاستقلال.
كان الإخوان المسلمون والشيوعيون والقوميون السوريون والبعثييون يتظاهرون في ساحات دمشق وحلب.
ولم يفكر حينها أحد, بما في ذلك الإخوان المسلمين, الخروج من الجوامع.
لأن سلطة الانتداب والحكومات الوطنية فيما بعد لم تسع للسيطرة الأمنية على الساحات والجامعات والمدارس.
كان هناك احترام للجوامع وللحرم الجامعي.
واشتهر باب الحديد وباب النصر في حلب بالمظاهرات المنددة للاحتلال الفرنسي, وضد الحكومات الديكتاتورية في سوريا بعد الاستقلال.
كان الإخوان المسلمون والشيوعيون والقوميون السوريون والبعثييون يتظاهرون في ساحات دمشق وحلب.
ولم يفكر حينها أحد, بما في ذلك الإخوان المسلمين, الخروج من الجوامع.
لأن سلطة الانتداب والحكومات الوطنية فيما بعد لم تسع للسيطرة الأمنية على الساحات والجامعات والمدارس.
كان هناك احترام للجوامع وللحرم الجامعي.
بعد استيلاء حزب البعث للسلطة بانقلاب عسكري عام 1963, ولاسيما بعد الانقلاب الثاني الذي قام به حافظ الأسد على رفاقه ورؤسائه عام 1970, فكر ملياً بقطع الطريق وإلى الأبد (كما حكم إلى الأبد) على أي نوع من المظاهرات تخرج من الشوارع الرئيسية ومن الجامعات وتتمركز في الساحات العامة.
لم يكتف حافظ الأسد بذلك, بل سعى منذ اليوم الأول من استيلائه على السلطة بتعميم نفوذه على رجال الدين والتحكم بالجوامع والمدارس الدينية والجامعات.
جمع حوله ثلة من كبار رجال الدين في سوريا لينفذوا ما يريد, كما يفعل لديه الحزبيون والعسكريون.فكانت خطبة الجمعة خطبة أمنية والتحدث في المؤتمرات الإسلامية العربية والعالمية والمقابلات التلفزيونية خاضعاً للتوجيه الأمني.
فرجل الدين أينما ذهب هو يمثل حافظ الأسد بعباءة دينية.
كان النموذج الأبرز على هذا الصعيد الشيخ كفتارو ومروان شيخو.
وعندما جاء الرئيس بشار الأسد ومات الشيخين السابقين أنتج العهد الجديد البوطي وحسون اللذان لم يحفظا لأنفسهما أية مصداقية شخصية, بل جعلوا الدين أداة من أدوات الاستبداد.
بعد احتلال الأمريكي للعراق حاولت بعض القوى التقدمية والشخصيات الثقافية التي هي خارج نفوذ السلطة من التواجد في ساحة سعد الله الجابري في حلب تنديداً بهذا الاحتلال.
وعلى الرغم من أن النظام السوري هو الآخر كان ضد الاحتلال الأمريكي للعراق لم يستطع التجمع في الساحة أكثر /200/ شخص في أحسن الأحوال.
وإلى جانب هذا التجمع الصغير كان أكثر من ألف رجل أمن ورجل شرطة يتواجدون في الساحة وفي المداخل المؤدية إليها.
لا شك لو أن النظام في حينه أراد منع هذه المظاهرة الهزيلة لكان ذلك من أسهل الأمور عليه, فهو يريد كل شيء بمقداره.
إن السبب الرئيس لتواجد قوى الأمن بهذه الكثافة مقارنة مع العدد الضئيل من المتظاهرين دلالة على خوف النظام من أن تنقلب المظاهرة فجأة من التنديد بالاحتلال الأمريكي للعراق إلى رفع شعارات معارضة للنظام السوري.
واليوم, وبالرغم من أن الحراك الشعبي في حلب دون مستوى المدن السورية الأخرى, وبالرغم مما نسمعه من الحديث المتكرر في الإعلام ولا سيما في قناة الدنيا بأن حلب مع النظام قلباً وقالباً, فإن رجال الأمن لم يكتفوا بالمراقبة الخفية لساحة سعد الله الجابري ومداخلها, بل وجه التابعين والموالين له من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية واللاهثين نحوها بإقامة الخيام في الساحة وتنصيب مكرفونات تصدح منها موسيقى الولاء للنظام وترديد اللعنات ضد الامبريالية والصهيونية والجامعة العربية ودول الخليج.
إن هذا التواجد المستمر خلال /24/ ساعة ومنذ عدة شهور يكشف مدى خوف النظام من ساحة سعد الله الجابري.
لأن أي تظاهرة, ولو كانت صغيرة, في هذا الساحة سيعلم بها كل حلب دون الحاجة إلى الإعلام.
منذ بداية الثورة زرت صديقاً في دمشق وحضر الجلسة رجل قيل أنه صحفي من وكالة سانا.
وجرى الحديث حول الثورة السورية.
قال هذا الصحفي, وهو من جبل العلويين مثل أدونيس, أن ما يجري في البلد عبارة عن مؤامرة خارجية بالتحالف مع الإخوان المسلمين والسلفيين.
وكان دليله على ذلك خروج المظاهرات من الجوامع وإطلاق التكبيرات.
وختم حديثه بالسؤال: لماذا لا يتظاهرون في الساحات العامة؟.
في الحقيقة لم أتجرأ كثيراً للتعبير عن قناعاتي أمامه.
ومع ذلك قلت له: أنا مسلم سني بالوراثة, وماركسي منذ عشرات السنين, و لم أدخل الجامع يوماً بهدف العبادة, ومع ذلك لو أردت التظاهر مع المتظاهرين لذهبت إلى الجامع وخرجت مع المصلين.
وسبب ذهابي إلى الجامع ليس لأني اهتديت أخيراً كما يقول الحلبيون, بل لأنه لا يمكن التجمع بهدف التظاهر سوى من خلال الجامع.
بعد هذه المقدمة الطويلة أريد مخاطبة شاعرنا العالمي: ما هو العيب إذا خرجت قوافل الثوار من مكان العبادة؟.
لقد تخاذلنا نحن العلمانيون والماركسيون وأصحاب الايدولوجيات الثورية, وتعايشنا مع هذا الذل الذي يفرضه النظام على الشعب السوري منذ خمسين عاماً.
لو نظرنا إلى تاريخنا الحديث, كم من كاتب أو مفكر أو شاعر سوري استشهد من أجل الحرية وكرامة المواطنين؟.
نحن نتحدث بإعجاب كبير عن النهضة الغربية, لكننا نتغافل أنه كان لهذه النهضة أبناء عمالقة من المفكرين والفلاسفة والشعراء الذين استشهدوا تحت أشرس أنواع التعذيب, بل جرى حرق بعضهم في الساحات العامة.
لقد أنتج العديد من كتابنا وروائيينا وشعرائنا كتباً تتغنى بالحرية والكرامة, ولا سيما تمجيد القيم الإنسانية العليا التي يجسدها الثائر الذي يقول للظلم لا, ويسكب دماءه من أجل ذلك.
وعندما ظهر بطلنا من بين الكتب ليجسد كل ذلك في الواقع تنكرنا لأفكارنا وخنا هذا البطل قبل أن نخون شعبنا.
تغنى غالبية الماركسيين منا بلاهوت الثورة في أمريكا اللاتينية, ومجدنا أولئك الرهبان الذين وقفوا مع ثورات شعوبهم ضد الأنظمة الاستبدادية.
وعندما جاء رجل الدين الإسلامي المتنور ليربط الإسلام بالحرية والكرامة والديمقراطية تعرض عقلنا الماركسي والعلماني للوثة, وصرنا أصوليين, على طريقتنا, أكثر من أولئك الأصوليين الذين طالما وجهنا انتقادنا الفكري لهم.
إن هؤلاء الشباب الذي يخرجون من الجوامع ويقولون الله أكبر, هم لا يمارسون العبادة في الشارع.
بل إن هذه الجملة على لسانهم تعني الحرية والكرامة ورفض العبودية وديمومة الذل.
فهل من المعقول أن شاعراً مثل أدونيس الغارق في الرمزية والسريالية لا يستطيع أن يفهم المضمون الرمزي لهذا الجملة؟.
لم يكتف حافظ الأسد بذلك, بل سعى منذ اليوم الأول من استيلائه على السلطة بتعميم نفوذه على رجال الدين والتحكم بالجوامع والمدارس الدينية والجامعات.
جمع حوله ثلة من كبار رجال الدين في سوريا لينفذوا ما يريد, كما يفعل لديه الحزبيون والعسكريون.فكانت خطبة الجمعة خطبة أمنية والتحدث في المؤتمرات الإسلامية العربية والعالمية والمقابلات التلفزيونية خاضعاً للتوجيه الأمني.
فرجل الدين أينما ذهب هو يمثل حافظ الأسد بعباءة دينية.
كان النموذج الأبرز على هذا الصعيد الشيخ كفتارو ومروان شيخو.
وعندما جاء الرئيس بشار الأسد ومات الشيخين السابقين أنتج العهد الجديد البوطي وحسون اللذان لم يحفظا لأنفسهما أية مصداقية شخصية, بل جعلوا الدين أداة من أدوات الاستبداد.
بعد احتلال الأمريكي للعراق حاولت بعض القوى التقدمية والشخصيات الثقافية التي هي خارج نفوذ السلطة من التواجد في ساحة سعد الله الجابري في حلب تنديداً بهذا الاحتلال.
وعلى الرغم من أن النظام السوري هو الآخر كان ضد الاحتلال الأمريكي للعراق لم يستطع التجمع في الساحة أكثر /200/ شخص في أحسن الأحوال.
وإلى جانب هذا التجمع الصغير كان أكثر من ألف رجل أمن ورجل شرطة يتواجدون في الساحة وفي المداخل المؤدية إليها.
لا شك لو أن النظام في حينه أراد منع هذه المظاهرة الهزيلة لكان ذلك من أسهل الأمور عليه, فهو يريد كل شيء بمقداره.
إن السبب الرئيس لتواجد قوى الأمن بهذه الكثافة مقارنة مع العدد الضئيل من المتظاهرين دلالة على خوف النظام من أن تنقلب المظاهرة فجأة من التنديد بالاحتلال الأمريكي للعراق إلى رفع شعارات معارضة للنظام السوري.
واليوم, وبالرغم من أن الحراك الشعبي في حلب دون مستوى المدن السورية الأخرى, وبالرغم مما نسمعه من الحديث المتكرر في الإعلام ولا سيما في قناة الدنيا بأن حلب مع النظام قلباً وقالباً, فإن رجال الأمن لم يكتفوا بالمراقبة الخفية لساحة سعد الله الجابري ومداخلها, بل وجه التابعين والموالين له من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية واللاهثين نحوها بإقامة الخيام في الساحة وتنصيب مكرفونات تصدح منها موسيقى الولاء للنظام وترديد اللعنات ضد الامبريالية والصهيونية والجامعة العربية ودول الخليج.
إن هذا التواجد المستمر خلال /24/ ساعة ومنذ عدة شهور يكشف مدى خوف النظام من ساحة سعد الله الجابري.
لأن أي تظاهرة, ولو كانت صغيرة, في هذا الساحة سيعلم بها كل حلب دون الحاجة إلى الإعلام.
منذ بداية الثورة زرت صديقاً في دمشق وحضر الجلسة رجل قيل أنه صحفي من وكالة سانا.
وجرى الحديث حول الثورة السورية.
قال هذا الصحفي, وهو من جبل العلويين مثل أدونيس, أن ما يجري في البلد عبارة عن مؤامرة خارجية بالتحالف مع الإخوان المسلمين والسلفيين.
وكان دليله على ذلك خروج المظاهرات من الجوامع وإطلاق التكبيرات.
وختم حديثه بالسؤال: لماذا لا يتظاهرون في الساحات العامة؟.
في الحقيقة لم أتجرأ كثيراً للتعبير عن قناعاتي أمامه.
ومع ذلك قلت له: أنا مسلم سني بالوراثة, وماركسي منذ عشرات السنين, و لم أدخل الجامع يوماً بهدف العبادة, ومع ذلك لو أردت التظاهر مع المتظاهرين لذهبت إلى الجامع وخرجت مع المصلين.
وسبب ذهابي إلى الجامع ليس لأني اهتديت أخيراً كما يقول الحلبيون, بل لأنه لا يمكن التجمع بهدف التظاهر سوى من خلال الجامع.
بعد هذه المقدمة الطويلة أريد مخاطبة شاعرنا العالمي: ما هو العيب إذا خرجت قوافل الثوار من مكان العبادة؟.
لقد تخاذلنا نحن العلمانيون والماركسيون وأصحاب الايدولوجيات الثورية, وتعايشنا مع هذا الذل الذي يفرضه النظام على الشعب السوري منذ خمسين عاماً.
لو نظرنا إلى تاريخنا الحديث, كم من كاتب أو مفكر أو شاعر سوري استشهد من أجل الحرية وكرامة المواطنين؟.
نحن نتحدث بإعجاب كبير عن النهضة الغربية, لكننا نتغافل أنه كان لهذه النهضة أبناء عمالقة من المفكرين والفلاسفة والشعراء الذين استشهدوا تحت أشرس أنواع التعذيب, بل جرى حرق بعضهم في الساحات العامة.
لقد أنتج العديد من كتابنا وروائيينا وشعرائنا كتباً تتغنى بالحرية والكرامة, ولا سيما تمجيد القيم الإنسانية العليا التي يجسدها الثائر الذي يقول للظلم لا, ويسكب دماءه من أجل ذلك.
وعندما ظهر بطلنا من بين الكتب ليجسد كل ذلك في الواقع تنكرنا لأفكارنا وخنا هذا البطل قبل أن نخون شعبنا.
تغنى غالبية الماركسيين منا بلاهوت الثورة في أمريكا اللاتينية, ومجدنا أولئك الرهبان الذين وقفوا مع ثورات شعوبهم ضد الأنظمة الاستبدادية.
وعندما جاء رجل الدين الإسلامي المتنور ليربط الإسلام بالحرية والكرامة والديمقراطية تعرض عقلنا الماركسي والعلماني للوثة, وصرنا أصوليين, على طريقتنا, أكثر من أولئك الأصوليين الذين طالما وجهنا انتقادنا الفكري لهم.
إن هؤلاء الشباب الذي يخرجون من الجوامع ويقولون الله أكبر, هم لا يمارسون العبادة في الشارع.
بل إن هذه الجملة على لسانهم تعني الحرية والكرامة ورفض العبودية وديمومة الذل.
فهل من المعقول أن شاعراً مثل أدونيس الغارق في الرمزية والسريالية لا يستطيع أن يفهم المضمون الرمزي لهذا الجملة؟.
أتصور إن ما يقوله أدونيس ليس مجرد وجهة نظر, وإنما هو كشف لحقيقة لا يريد البعض إقرارها.
وهي أن الغالبية العظمى من اليساريين والعلمانيين السوريين قد أصبحوا جزء من الماضي, وقد تجاوزتهم الثورة.
إنهم لا يجدون مكاناً لهم فيما بعد الثورة, ليس لأن الإسلاميين سيسيطرون على مقاليد الأمور في الدولة وفي المجتمع, بل لأنهم كانوا أحد الأسباب التي جعلت النهضة الفكرية والاجتماعية في بلدنا عبارة عن حبر على الورق مثل برامج الأحزاب السياسية.
لقد تخاذل العلمانيون واليساريون السوريون تجاه الثورة, ليس لأن جميعهم مع النظام, بل لأن عقلهم السكوني يخشى من الثورة أكثر مما يخشاها النظام.
وهي أن الغالبية العظمى من اليساريين والعلمانيين السوريين قد أصبحوا جزء من الماضي, وقد تجاوزتهم الثورة.
إنهم لا يجدون مكاناً لهم فيما بعد الثورة, ليس لأن الإسلاميين سيسيطرون على مقاليد الأمور في الدولة وفي المجتمع, بل لأنهم كانوا أحد الأسباب التي جعلت النهضة الفكرية والاجتماعية في بلدنا عبارة عن حبر على الورق مثل برامج الأحزاب السياسية.
لقد تخاذل العلمانيون واليساريون السوريون تجاه الثورة, ليس لأن جميعهم مع النظام, بل لأن عقلهم السكوني يخشى من الثورة أكثر مما يخشاها النظام.