المجلس الوطني السوري والملف الكوردي

جان كورد
 ‏

هناك لعبة أطفال لدى الكورد تدعى “السكين والجبنة”، يقترب فيها طفلان من جهتين مختلفتين خطوة خطوة، أحدهما يمثل السكين والآخر يمثل الجبنة، ومعلوم أن السكين هي القاطعة وهي الأقوى في اللعبة، وقبيل وصول الخصمين إلى نقطة التلاقي تزداد اللعبة هيجاناً، رغم أن النتيجة معروفة وهي أن الجبنة لن تنتصر على السكين.

وفي غالب الأحيان يتدخل الحكم ويوقف اللعبة لأن الغاية منها هي تعليم الاطفال أن يرحم الأقوياء الضعفاء وأن لايقطعوا بعضهم بعضاً كما تفعل السكين بالجبنة.
شاء الكورد أم أبوا، فإنهم يمثلون جهة الجبنة في هذه اللعبة السورية، لأنهم أقلية في نظر الكثيرين ممن في المجلس الوطني السوري، الذي يبدو أنه الممثل الأهم حالياً في المعارضة السورية لطموحات الثورة الشعبية، والأقلية تتبع الأغلبية في الديموقراطية، هكذا تعلموا وهكذا سيتصرفون وفق ما تعلموه، في حين أن هناك أقليات سوى الكورد، لها مساند دولية أو اقليمية قوية، لاينطبق عليها هذا البند الديموقراطي، فهي تتمتع بالحقوق التي حرم الكورد منها طوال عقودٍ طويلة من الزمن، في ظل النظام الأسدي، وبعد زواله أيضاً.
أصبح لدى المجلس الوطني السوري “ملف كوردي” ظهر واضحاً باعلان المكون الكوردي، سوى فئة تؤمن بأن بقاءها في المجلس أهم لها من السير مع ممثلي قومها، الإنسحاب من مؤتمر استنبول الأخير، هذا المؤتمر الذي كان مفترضاً فيه أن يظهر السوريين صفاً واحداً أمام أعين العالم الخارجي.

وهذا الملف الكوردي قد لايكون هاماً بحجم ملف “الجيش السوري الحر” أو ملف “شراء بعض الأتباع القريبين من الأسد” أو ملف “كسب الطائفتين الدرزية والعلوية إلى صف الثورة كلياً”، إلا أنه ملف لمكون أساسي من مكونات المجتمع السوري، سيكون لاهماله عواقب وخيمة مستقبلاً على مسار الحياة الديموقراطية في سوريا ما بعد حكم آل الأسد.
لو كان الأسد ذكياً لاستطاع الاستفادة الآن من “عنجهية” بعض رموز المعارضة السورية ورجالات المجلس الوطني الذين يتصرفون وكأنهم لايعلمون شيئاً عن القانون الدولي بصدد “حق تقرير المصير للشعوب” أو لم يسمعوا بالنجاح الكبير للنظام الفيدرالي على المستوى العالمي، حيث تتواجد أكثر من قومية في دولةٍ واحدة، وحتى في دولةٍ مثل ألمانيا ليس فيها سوى الشعب الألماني، ومع ذلك فإن النظام السياسي لهذا الشعب قائم على تفتيت السلطة المركزية وتوزيعها بشكل عادل على 16 ولاية متفاوتة في الحجم السكاني، حيث منها على مستوى مدينة واحدة فقط، في حين أن جارتها أكبر من دولتين عربيتين معاً، وأقوى من حيث الامكانات والثروات، ولكنها تملك ذات الحقوق التي تتمتع بها ولاية ضعيفة وصغيرة.

نعم لو كان الأسد ذكياً لكسب قلوب الكثيرين من الكورد بمرسوم تشريعي واحد يضمن لهم التمتع بحقهم في إدارة أنفسهم ضمن سوريا واحدة موحدة، إلا أن العقيدة السياسية للنظام الذي تربى ونشأ في ظل الشعارات العنصرية لحزب “البعق” تدفعه باستمرار إلى التظاهر بمظهر المدافع عن “عروبة سوريا”…
كان بامكان المجلس الوطني السوري أن يحافظ في ميثاقه الذي اختتم به مؤتمره الأخير في اسطنبول، على ذات الصياغة المتواضعة التي دونها في نهاية مؤتمره في تونس حيال ” الملف الكوردي”، إلا أن اسطنبول غير تونس، من جهة موقعه الجيوبوليتيكي، فهنا تركيا التي يعيش فيها أكثر من 25 مليون نسمة من “الكورد” الذين يطالبون كل يوم بحقهم القومي ويلجأ طرف من أطرافهم السياسية إلى استخدام العنف أيضاً في سبيل نيل تلك الحقوق.

وفي تركيا المتاخمة لسوريا من ناحية الشمال – كما نعلم – مدرسة سياسية تقول حرفياً:”لن نسمح بأن تقوم للكورد قائمة حتى ولو على سطح المريخ.” ومعلوم أن الدعوة لمؤتمر المجلس الوطني السوري هذه المرة كانت عبر بوابة وزارتي الخارجية التركية والقطرية.

ومصالح تركيا وقطر ومعهما دول وامارات عربية وكذلك بعض الدول الكبرى تقتضي أن لايحلق المجلس الوطني السوري خارج السرب.


طالب المكون الكوردي في المؤتمر أن يتم الاعتراف الدستوري بوجود وحق الشعب الكوردي وحل قضيته القومية على أساس هذا الاعتراف بشكل ديموقراطي عادل، فهل في هذا ما يخالف الشرع الرباني الذي يدعوننا إلى تطبيقه “الإخوان المسلمون” الذين يشكلون الكتلة الأشد تماسكاً في هذا المجلس؟ أم أن هذا مخالف للقانون الدولي الذي يتبجح بالنضال في سبيل احترامه العلمانيون، وهم في غالبيتهم قانونيون ومحامون شهيرون بماضيهم التليد في الدفاع عن الحقوق والمطالبة بالحريات؟
الإدعاء المنسوب للكوردي الوحيد في الهيئة التنفيذية للمجلس الوطني السوري، الدكتور عبد الباسط سيدا، الذي لم يخرج مع ممثلي شعبه الكوردي من المؤتمر، بأنهم يطالبون بما هو “سقف عالٍ” و”سيأتي بالمشاكل” باطل وخاطىء ويدل على أن هذا الإنسان من أصحاب “النوايا الحسنة”، فيرى حل المشكلة الكبيرة بين ما يريده أبناء جلدته وبين ما يعرضه زملاؤه في المجلس الوطني السوري في المطالبة بالحد الأدنى من الحقوق الكوردية والانتظار حتى إشعارٍ آخر، أي الانتظار حتى ينمو الشعور العام بين الديموقراطيين السوريين بأن الشعب الكوردي يستحق أكثر من ذلك، فيطرحون مبادرات أشد جدية مستقبلاً… إلا أن المؤمن لايلدغ من جحرٍ مرتين، فالكورد شاركوا في الثورة ضد الفرنسيين من قبل، فجاء الدستور السوري بعد الاستقلال ليتناسى وجودهم القومي وحقوقهم التي يقرها القانون الدولي كقومية ثانية إلى جانب القومية العربية والعديد من الأقليات القومية والدينية… وآمل أن لايكون هذا الادعاء من السيد عبد الباسط سيدا نتيجة حسابات شخصية للبقاء في قمة الهرم السوري المعارض….


عدم تناول المجلس الوطني السوري للملف الكوردي بشكل لائق، وانسحاب ممثلي المكون الكوردي من المؤتمر بسبب ذلك، لايعني انسحاب الكورد من المعارضة أو التخلي عن الثورة، وهذا التأكيد جاء على لسان عدة سياسيين كورد، ممن كانوا في المؤتمر وممن لم تتم دعوتهم أصلاً لأسباب عديدة، منها أن اختيار المدعويين كان يتم عبر فلترات فئوية وعقيدية وحزبية وتحت تأثيرات شخصية وعشائرية ومناطقية، بل لايمكن تجاهل الفلترات غير السورية أيضاً.

الكورد مستمرون في أداء دورهم في الثورة وفي المعارضة لأنهم على ثقة بأن قضيتهم القومية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتحقيق مجتمع الحرية والديموقراطية، وهي القضية الأساس التي ينطلقون منها، لأن عدم حلها حتى الآن هو سبب شقائهم الكبير.

ولايمكن القبول باتهام الشعب الكوردي بالتقصير أو التراجع أو التردد أو الأنانية.


المجلس الوطني السوري لم يهمل شيئاً في وثيقة العهد الوطني التي قرأها علينا السيد جورج صبرة من اسطنبول، حتى أنها لم تهمل قضية الشعب الفلسطيني أيضاً، ولكن هناك من يزعم بأن المجلس في حالة “ثورة” ضد النظام، وطرح الاعتراف الدستوري بالشعب الكوردي وحقوقه القومية الآن سابقٍ لأوانه، فماذا يعني هذا؟ أو ماذا يريدون قوله للكورد بالضبط؟ القضية الفلسطينية أهم من قضيتكم؟ أم أن قضيتكم دون المستوى؟ أم لا دستور ولا بطيخ… نحن هنا الأغلبية وأنتم الأقلية ونحن سنطبق ما نراه حقاً وعدلاً وما عليكم سوى قبوله… فإذا لم يكن هذا وذاك صحيحاً فليعطوناً تبريراً نقنع به الشعب الكوردي الذي لم يعد يقبل بأن يقاد إلى المقصلة دون مقاومة.
هناك من يقول: نحن العرب تخلينا عن “عروبة سوريا” من أجل خاطركم وخاطر الأقليات الأخرى، فلماذا تصرون على كورديتكم وحقكم القومي؟
قبل كل شيء، محاولة البعث لاظهار سوريا “عربية” عقوداً من الزمن فشلت لأن الحقائق على الأرض تثبت بأن سوريا بلد متعدد القوميات.

وفي الحقيقة لم يتخلى أحد عن “عروبة سوريا” عندما يؤكد العهد الوطني السوري على دعم القضية الفلسطينية ويتملص من القضية الكوردية التي هي قضية سورية داخلية لأسباب “قومية صرفة”، بل إن الكورد لايجدون حرجاً في أن يقاتل العرب السوريون من اجل وحدتهم القومية فهذا حق لهم كما هو حق لسائر القوميات ومن ضمنها القومية الكوردية بالتأكيد.

كما تقول الحقيقة: التخلي عن الشطحات العنصرية أمر جيد، والاعتراف بالحقائق على الأرض كذلك، وهذا لايمكن اعتباره منة على الكورد وسواهم، فسوريا كما هي على الأرض جزء من المنطقة العربية وعضو في الجامعة العربية “مجمد حالياً” ولها حدود مع ثلاث عربية وشعبها في غالبيته يتكلم بالعربية، وأعتقد أن ليس هناك كوردي عاقل ينكر هذا، ولكن أن يصر بعضهم على جعلها سورية عربية ذات جيش عربي، وجمهورية عربية، ومواطنين كلهم عرب، فهذا ما يرفضه ويقاومه الكوردي وغير الكوردي، ولذا لابد من أن يحصل الكورد وسواهم من غير العرب على “ضمانات دستورية” بحقوقهم، وهذه الضمانات مطلوبة من المجلس الوطني السوري، الذي نقدر ظروف عقد مؤتمراته هنا وهناك، ونعلم أن الحوار هو الطريق الأنسب للحصول على هذه الضمانات الضرورية، ولكن بالتأكيد سيكون لاهمال الملف الكوردي تأثير سلبي جداً على المجلس الوطني قبل ان يكون على المكون الكوردي، الذي كان ديدنه البحث عن الحوار منذ أن وجد.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…