على الكرد أن يكونوا أكثر يقظة

صالح بوزان

لقد فجر توقيع الوثيقة التوافقية بين بعض قيادات المجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق السورية ردود أفعالاً متباينة داخل المجلس الوطني وفي الشارع السوري المنتفض.

تمركزت هذه الردود حول مجموعة من النقاط التي جاءت في هذه  الوثيقة.

لا أريد التطرق لكل البنود التي فجرت الخلافات.

وإنما سأكتفي التعرض للنقطة التي تخص الحقوق الكردية.

هذه النقطة التي شكلت تراجعاً من قبل غليون وجماعته عن برنامج المجلس الوطني السوري الذي صدر في تونس مؤخراً.

كما أنها بينت الدور الضعيف للأحزاب الكردية في هيئة التنسيق بما يتعلق بالحقوق الكردية المصيرية.
منذ بداية الثورة كتبت أن هناك دائماً لصوصاً تحوم حول الثورات, هدفهم اختطافها وتحويلها من مجراها الرئيسي إلى مجرى مصالحهم السياسية والاقتصادية وربما الإستراتيجية.

وعندما ينجحون في ذلك تبدأ الثورة بأكل أبنائها الحقيقيين وتتحول إلى كارثة على الشعب والوطن.

ذكرت أيضاً أن هناك من بين قيادات المعارضة عقليات سياسية كلاسيكية تهمها السلطة بأي شكل من الأشكال.

وبالتالي فهي تمثل جانباً من عقلية النظام السوري, هذه العقلية التي تتستر بالمبادئ والأخلاق ولكنها جاهزة في عقد صفقات مريبة عند أول انعطاف.
بالرغم من تقديري للدكتور برهان غليون كمفكر سوري كبير, كتب العديد من الأبحاث والمقالات حول الديمقراطية والعدالة وما عانى المواطن السوري من النظام الاستبدادي .

لكن يبدو أن حالة المعارضة الكلاسيكية اليائسة ضد النظام قبل الثورة كانت توحد أفكاره, وتجعله صادقاً (ربما من حيث الظاهر) ومنسجماً مع أفكاره أكثر من الآن.

فبمجرد أن استحوذ على شيء من السلطة (رئيس المجلس الوطني) انتقل سريعاً إلى صف مجموعة السياسيين السوريين الكلاسيكيين الذين لا يتقنون سوى الصفقات التي تعبر عن التواطؤ وعدم احترام الشعب رغم الحديث الشعري المتواصل عن دوره التاريخي.

هذه هي التربية البعثية التي انتقلت مع الزمن من حزب البعث إلى المعارضة الكلاسيكية السورية بشقيها العربي والكردي.


إن هؤلاء الساسة لا يستطيعون أن يفهموا أن هدف الثورة السورية ليس إسقاط النظام البعثي فقط.

بل بناء حياة سياسية تشكل القطيعة الكاملة مع تراث النظام في الحكم.

فالثوار يدركون تماماً أن لا قيمة لثورتهم ولا لتضحياتهم الكبيرة إذا اكتفوا بتبديل  نظام حكم بنظام آخر مع الاحتفاظ بأساليبه وأدواته.


ربما كان هذا وراء رفض الثوار فوراً وثيقة غليون ـ مناع.

والمطالبة من الغليون ترك العمل السياسي والعودة إلى التدريس في جامعة السوربون, فهذا هو العمل الوحيد الذي يتقنه.

وقالوا عن مناع أسوء من ذلك.
وجاء رفض الكتلة الكردية في المجلس الوطني السوري للوثيقة انسجاماً ليس مع حقوق الشعب الكردي السوري فحسب, وإنما التزاماً حقيقياً مع تطلعات الثوار السوريين, وانعكاساً للتلاحم الذي يجرى على الأرض بين شباب التنسيقيات العرب والكرد, هذا التلاحم الذي خلق وعياً جديداً لا يعتبر حقوق الشعب الكردي السوري في إطار الوطن الواحد انتقاصاً لحقوق الكتلة العربية الأكبر من الشعب السوري.

بل تكملة لاسترداد الشعب حقوقه من سلطة استبدادية.

وعلى هذه القاعدة الأخلاقية والمبدئية تداخلت انتفاضات المناطق الكردية مع انتفاضات بقية أجزاء الوطن.
يبدو أن برهان غليون وهيثم مناع لا يدركون هذه الحقيقة الجديدة.

وبالمناسبة فهذا ليس الخطأ الوحيد للدكتور برهان غليون.

سبق أن اعتبر الأكراد في سوريا لاجئين مثل اللاجئين الآسيويين في دول أوروبا.

كما أنه قدم تعزيته للحكومة التركية بمقتل عدد من جنودها في معركة بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني, واتهم هذا الحزب بالإرهاب مع التجاهل بأن هذا الحزب يقاتل من أجل حقوق شعب تعرض لأبشع الجرائم من قبل الدولة الكمالية خلال ما يقارب قرن من الزمن.
إن تكرار الخطأ لا يبقى في إطار الخطأ, بل يتعدى إلى أن التوقيع على الوثائق حالة طارئة لدى الدكتور غليون, تفترضها مهنة السياسة كما يفهما.

وفي الحقيقة أن حالة غليون ـ مناع تذكرنا بحالة قيادات الحكومات العربية والتركية والإيرانية عبر عقود من الزمن.

فهذه القيادات كانت تدغدغ عواطف الأكراد ببعض التصريحات والمديح الرخيص في الظروف الصعبة التي يواجهونها.

وبمجرد أن تخرج من هذه الظروف تتحول إلى أعداء شرسين لا يتوانون من ارتكاب أبشع الجرائم ضد الأكراد.

هذا ما فعله آتاتورك, وهذا ما فعله خميني وصدام حسين, وهذا ما تفعله السلطة السورية اليوم.


في الحقيقة لا أستطيع أن أفهم هذا التهافت من قبل البعض في المجلس الوطني السوري للاتفاق مع هيئة التنسيق التي رفضها الثوار.

وبالمناسبة فكل أعضاء وأحزاب هيئة التنسيق ليس وزن جماهيري على الأرض, ولم تخرج مظاهرة واحدة في المدن السورية تقول أن هيئة التنسيق تمثلنا.

الحزب الوحيد الذي له قاعدة على الأرض هو PYD الحزب الكردي الرديف للحزب العمالي الكردستاني.

وحتى هذا الحزب لا يرفع شعار “المجلس الوطني يمثلنا” في مظاهراته الخاصة.

وحتى الآن لا أدري ما هو المشترك بين هذا الحزب وهذه المجموعة من الساسة الفاشلين.
أعتقد أن العقلية الإقصائية لدى هيئة التنسيق أكبر بكثير من التي لدى بعض أطراف المجلس الوطني السوري.

والدليل على هذه الاقصائية أن ما جاء في برنامج المجلس الوطني السوري حول الأكراد يقول: (تشكل سورية الجديدة بنظامها المدني الديمقراطي ودستورها أفضل ضمانة لكافة فئات الشعب السوري القومية والدينية والطائفية.

يكفل الدستور الحقوق القومية للشعب الكردي وحل المسألة الكردية حلاً ديمقراطياً عادلاً في إطار وحدة سورية أرضاً وشعباً مع ممارسة حقوق وواجبات المواطنة المتساوية بين جميع المواطنين).

بينما جاء في وثيقة غليون ـ مناع (التأكيد على أن الوجود القومي الكردي جزء أساسي وتاريخي من النسيج الوطني السوري، وهو ما يقتضي إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في إطار وحدة البلاد أرضا وشعبا، الأمر الذي لا يتناقض البتة مع كون سورية جزءا لا يتجزأ من الوطن العربي).


إن صيغة المجلس الوطني السوري  متقدمة على صيغة الاتفاق الغليوني ـ المناعي تجاه الاعتراف بالشعب الكردي السوري.

ويبدو أن دور الكتلة الكردية في المجلس الوطني السوري كان لها دور ملموس بأن تأتي الحقوق الكردية بهذه الصيغة الصريحة والواضحة, والتي حلم بها الأكراد منذ استقلال سوريا.

غير أن دور الكتلة الكردية في هيئة التنسيق ضعيف, ولم تستطع أن تفرض صيغة الشعب الكري السوري على شركائها.

والغريب في الأمر هو موافقة السيد صالح محمد مسلم, زعيم PYD على هذه الصيغة وحضوره جلسة التوقيع على الوثيقة وعدم اعتراضه عليها.

كما لم نسمع أي تصريح له أو لغيره من الكتلة الكردية يعترضوا فيه على هذه الصيغة كما فعلت الكتلة الكردية في المجلس الوطني السوري.
وللإيضاح فإن مصطلح النسيج الوطني الوارد في وثيقة غليون ـ مناع لا يعني أي اعتراف بالقومية الكردية, لأن المقصود هو أن الأكراد قد دخلوا تاريخياً في كيان الشعب العربي السوري.

وعلى هذا الأساس فإن كل القوميات التي مرت على سوريا تشكل النسيج الوطني للشعب العربي السوري.

وبهذا المفهوم ذكر رئيس الجمهوري بعد انتفاضة آذار 2004 بأن الأكراد يشكلون النسيج الوطني للشعب السوري.
لو رجعنا تاريخياً لهذا النسيج سنجد أن أكثرية سكان إدلب كانوا من الرومان والكرد.

ونسبة كبيرة من سكان مدينة حلب نفسها لم يكونوا عرباً.

وسكان الساحل السوري كانوا فينيقيين, وغالبية القرى والبلدات التي حول قلعة صلاح الدين كانوا أكراداً.

بمعنى آخر إذا بحثنا في نسيج الشعب السوري تاريخياً فإن العرب يشكلون الأقلية في سوريا.

ولكن متى كان هناك شعب صافي عرقياً؟.

فالأكراد الذين استعربوا تاريخياً هم اليوم عرب بغض النظر عن جذورهم.


أعيد القول إن صيغة النسيج الوطني التي تتردد في هذه الأيام على لسان بعض الساسة وفي بعض البيانات هي صيغة لا علاقة لها بالبحث العلمي, وإنما هي شكل جديد للقفز فوق الاعتراف الكامل بحقوق الشعب الكردي.

وأتمنى أن يكون كل الزعماء الأكراد مدركين لهذه الحقيقة.
وهكذا, ثمة أطراف في المعارضات السورية تسعى للاستفادة من توزع الكرد في التجمعات المختلفة لفرض أجندتها عليهم, باعتبار أن هذا التوزع يخلق تشتتاً في المواقف الكردية وضعفاً في إرادتهم السياسية.

ولهذا فالمرحلة التي تمر بها سوريا هي مرحلة حساسة بدرجة أكبر بالنسبة للشعب الكردي السوري.

وهي تفرض على جميع الساسة الكرد مهمة تاريخية تجاه هذا الشعب.

فكل الشعارات باطلة وكل التضحيات ستذهب سدى إذا لم يلتزم هؤلاء الساسة بحق الشعب الكردي السوري على أرض الواقع.

فلا بد أن يكون الزعماء الكرد من صغيرهم وحتى كبيرهم على مستوى عال من اليقظة تجاه ما يجري حولهم.

وأعتقد أن من الضروري:
ـ الوقوف الكامل مع القوى الحيوية للثورة السورية.

فهذه القوى هي التي ستبني سوريا الجديدة, والاتفاق معها هو الضمانة لحقوق الشعب الكردي.


ـ اليقظة لحقوق الشعب الكردي السوري من قبل كافة المجموعات الكردية في أي تجمع كان ومهما كانت انتماءاتها السياسية والحزبية.

ـ التحاور بين كل المجموعات الكردية؛ تنسيقيات الشباب والمجلس الوطني الكردي والكتلة الكردية داخل المجلس الوطني السوري والأحزاب الكردية التي هي خارج هذا الإطار بما في ذلك PYD  المنضوي في هيئة التنسيق للاتفاق على نقطة واحدة, وهي عدم التنازل عن الاعتراف الدستوري بالشعب الكردي السوري وحل قضيته ديمقراطياً في إطار الوطن السوري, دون أن يكون هذا الاتفاق ملزماً للجميع بالتواجد في إطار هيكلية واحدة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…