مفاعيل الثورة

أحمد اسماعيل اسماعيل

هنا والآن، في بلاد الله التي ضاقت بأهلها، والتي كانت الطاعة والمحافظة فيها تربية وتراث، والسماء قبة واطئة من حجر، والحيطان بآذان غير مرئية، والحديث عن الثورة، أو عن أي فعل ثوري، ضرب من خيال، وأحياناً من خبل.

أما الآن، ومع قدوم هذا الربيع وهبوب رياح التغيير التي راحت تنثر حبات التمرد والرفض في كل مدينة وشارع، فقد أصبح من الخبل التزام الصمت أو الاكتفاء بجمل فعلية فعلها لازم لا يتجاوز أو يتعدى فاعله إلى مفعول أول وثان ..
لا شك أن التمرد فعل مبني على حذف الكثير من العلل، وهو أول مفاعيل هذا الفعل، تمرد على سلطة تنصب وتجر وترفع ما يحلو لها ويناسبها من نصب ورفع وجر لكل ما هو سياسي وغير سياسي: تربوي، اجتماعي واقتصادي..

وحتى ديني، فإذا كان ذلك كذلك، فسيكون عدم تعدي هذا الفعل إلى مفعول ثان وثالث ورابع ..وربما عاشر، مجرد تبديل وليس تغيير، تبديل وجوه وأسماء لا تغيير نظام وسياسة وتربية، وقتل الناطور لا قطف العنب، فعل يكتفي بمفعول واحد هو نصر أولي يخال البعض إنه نهاية المطاف، ولكن ما لا يدركه هؤلاء هو إن فعل الثورة لا يبدأ بالضرورة بإسقاط النظام وتركته ورؤوسه الكبيرة وأيديه الطويلة وأقدامه العريضة، ولا ينتهي بنهاية النظام،  بل يشمل أول ما يشمل فاعله نفسه، من قام بفعل الثورة، وذلك قبل الفعل بقليل أو كثير، وأثناء الفعل بشكل كبير، ومن ثم بعده بشكل مستمر وطويل، إذ كيف لي أن أتبع ثائراً فعله فعل زعم وظن وليس فعل يقين ؟
فإذا كانت الثورة وسيلة لتطهير البلاد من المستبدين والفاسدين، فمن البداهة والنباهة ألا يتم ذلك بأليات مهترئة وكيانات فاسدة وكائنات يشكل بعضها الوجه الآخر للعملة التي تحمل صورة النظام ، ممارسة وطروحات.
فمن شأن ذلك أن يقلب المظاهرة في الشارع إلى ظاهرة، ويُغيب الاحترام والاعتراف بالآخر كندِّ وشريك في أي حوار قائم بين طرفين، فردين أو جماعتين، ويكرس عبادة الفرد في الحزب وتقديم ما هو حزبي على ما هو وطني، في زمن أصبحت هذه الحالة من علامات القصور العقلي والسياسي والحضاري، وتستمر لعنة التخوين والتقزيم والتشكيك والإقصاء على حساب روح التسامح والتواصل والمشاركة والشراكة: شراكة ثورة ووطن ومصير.
تفعيل الثورة أمر حتمي، وهو يبدأ بالفرد، بأصغريه: قلبه ولسانه، وسلوكه أيضاً.

فرد له كامل الاعتبار، مواطن وليس رعية، فلا ضمانة لحرية شعب وحقوقه وكرامته بمعزل عن ضمانة حرية الفرد وصون كرامته، درس تاريخي وخلاصة مفادها: التضحية بإحدى الحريتين على مذبح الأخرى تضحية بالاثنين معاً، كخسارة شعب حريته لاضطهاده شعب، قالها العم ماركس من قبل فصدق، صدق هو ولم يصادق عليها أحد، أي أحد.

ويبدأ تفعيل الثورة بعد ذلك بالجماعات السياسية وغير السياسية: ثقافية، دينية ،منظمات نسائية..

إلخ،
ليست ثورة تلك التي لا تكون مكان القلب من جسد الشعب، وتلك التي تكف عن النبض، وتلك التي لا تكون فعلاً من أفعال اليقين وتتعدى إلى مفاعيل كثيرة ومتجددة لا مفعول واحد، فثورة تكف عن الثورة باستمرار على ما في داخل النفس من إعاقات نفسية، وعلى ما في خارجها من معوقات سياسية، اجتماعية،، ستسقط لا محالة في فخ الانتقام أو التمييع أو الترهل والكساح، وستأكل نفسها وأبناءها حتى لو انتصرت .

a.smail1961@gmail.com

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين اثار الأستاذ مهند الكاطع، بشعاره “بمناسبة وبدونها أنا سوري ضد الفدرالية”، قضية جدلية تستحق وقفة نقدية عقلانية. هذا الشعار، رغم بساطته الظاهرة، ينطوي على اختزال شديد لقضية مركبة تتعلق بمستقبل الدولة السورية وهويتها وشكل نظامها السياسي. أولاً: لا بد من التأكيّد أن الفدرالية ليست لعنة أو تهديداً، بل خياراً ديمقراطياً مُجرّباً في أعقد دول العالم تنوعاً. كالهند،…

د. محمود عباس بصوتٍ لا لبس فيه، نطالب الحراك الكوردي في غربي كوردستان بعدم التنازل، تحت أي ظرف، عن مطلب النظام الفيدرالي اللامركزي، وتثبيته بوضوح في صلب الدستور السوري القادم. فهذا المطلب لم يعد مجرد خيارٍ سياسي ضمن قائمة البدائل، بل تحوّل إلى صمّام أمان وجودي، يحفظ ما تبقى من تطلعات شعبٍ نُكّل به لأكثر من قرن، وسُلب…

كفاح محمود   لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت…

إبراهيم محمود   بداية، أشكر باحثنا الكردي الدكتور محمود عباس، في تعليقه الشفاف والمتبصر” في مقاله ( عن حلقة إبراهيم محمود، حوار مهم يستحق المتابعة ” 11 نيسان 2025 “. موقع ولاتي مه، وفي نهاية المقال، رابط للحوار المتلفز)، على حواري مع كاتبنا الكردي جان دوست، على قناة ” شمس ” الكردية، باللغة العربية، في هولير، ومع الشكر هذا، أعتذر…