سوريا ضحية مزدوجة

هوشنك بروكا

قبل ما يزيد عن سنة ونيف، أي مع اندلاع الشرارة الأولى للثورة السورية، على أيدي “ملائكة سوريا” أقصد أطفال درعا، عاصمة الإقليم الحوراني، لم يكن لأحدٍ أن يتوقع بأن سوريا ستؤول إلى ما آلت إليه اليوم، من خرابٍ وتخريب، وعنفٍ وعنفٍ مضاد، أو أن تخرج من دمٍ كبير لتسقط في دمٍ أكبر.

لم يكن، ثورتئذٍ، حين كانت سوريا كلها من درعا إلى قامشلو، تردد شعارها الأكبر “سلمية سلمية..إسلام ومسيحية”، ليخطر في بال أحدٍ، بأن يصبح التسليح أو قانون “القتل بالقتل والبادي أظلم”، كما هو جارٍ في سوريا الآن، شعاراً “ضرورياً”، أو “لابدّ منه”، لديمومة الثورة ومشروعية بقائها.
لا شكّ أنّ النظام لعب دوراً كبيراً في توريط سوريا، في ما حصل ويحصل من قتلٍ وقتلٍ مضاد.
هو نجح، حتى الآن، وإلى حدٍّ كبير، في إيقاع سوريا في أكثر من ورطةٍ داخلية وخارجية، لإنقاذ نفسه.

هو، بقدر نجاحه في توريط سوريا مع سوريا، وشعبها مع شعبها، ومعارضتها مع معارضتها، نجح أيضاً في توريطها مع خارجها، لا بل مع العالم أيضاً.


ولا شكّ أيضاً، في أنّ هذا النظام الأكثر من قاتل، هو جلاّد سوريا الأول، كما أنّ هذه الأخيرة هي ضحيته.


هي ضحيته، في السياسة والإقتصاد والمال والإجتماع والثقافة.
هي ضحيته، في الداخل، كما في الخارج، في الماضي، كما في الحاضر، وربما في المستقبل أيضاً.
لكنها والحق يُقال، لم تعد ضحية نظامها فحسب؛ هذا النظام العاق الذي بات مفروغاً من أمره، بإعتباره نظاماً فاشياً، أكثر من قاتل وأكثر من ديكتاتوري وأكثر من دموي، وإنما هي ضحيةٌ لمعارضاتها أيضاً؛ هذه المعارضات التي أثبتت طيلة أكثر من سنةٍ ونيف من القيامة السورية، بأنها معارضات معوّقة، ناقصة، غير راشدة، مفككة، معارِضة لنفسها أكثر من أن تعارض النظام نفسه.


أحد أكبر الأسباب التي تقف وراء نجاح النظام السوري، في كسبه للرهان على الأرض، حتى الآن، هو رسوب المعارضة السورية نفسها، لا بل إسقاطها لنفسها بنفسها.
هي، رسبت في أن تكون معارضة موحدة، مقابل ديكتاتوريةٍ لا تزال متماسكة وقوية وموّحدة.
هي، رسبت في أن تمثل الشعب السوري بكلّ قومياته وإثنياته وأديانه وطوائفه، كمعارضة جديرة، مقابل نظامٍ ذكيّ، نجح ولا يزال في تفكيك الشعب السوري وتفريطه، وضربه ببعضه البعض، على أكثر من مستوى وصعيد.
هي، رسبت في أن تسقط النظام الذي نجح حتى الآن، في إسقاط سوريا وإسقاط شعبها، ودفعها نحو أكثر من مجهولٍ.
هي نجحت في الفنادق، فيما النظام نجح في الخنادق.
سوريا التي لم تعد أمامها فرصةٌ أخرى من بعد “فرصة أنان”، بات ينتظرها أكثر من مصيرٍ مجهول.

الكلّ بات ينتظر فشل أنان في خطته، التي ستؤدي في النهاية إلى فشل كلّ سوريا.

الكلّ يعوّل على أجنداته في هذه الخطة، أكثر من التعويل على سوريا نفسها.
فللنظام السوري أجندات، وللمعارضات أجندات، كما للأصدقاء والأعداء أجندات.
لا أحد يريد لسوريا أن تكون نفسها كما يريد لها شعبها أن يكون.
الكلّ يريدها لنفسه فقط، وعلى مزاجه فقط، وعلى مقاسه فقط.
الكلّ يلعب بها وعليها، أكثر من اللعب لأجلها.
الكلّ يهرب منها، أكثر من الهروب إليها.
الكلّ يريد نفسه فيها، أكثر من أن يريدها هي لنفسها أن تكون.
الكلّ يضحي بها، أكثر من التضحية لأجلها.
لا شكّ في أنّ النظام السوري، كنظام مجرم بحق شعبه، يتحمّل القسط الأكبر من إشعال سوريا وإحراقها، من خلال إتباعه لسياسة “أنا ومن بعدي الطوفان”، لكنّ المعارضات السورية أيضاً لم تعد بريئةً، كما قد يُتصوّر.
الشعب السوري الذي عشعش النظام الخوف في داخله، طيلة حوالي 42 سنة من حكمه في “جمهورية الرعب”، بات يخاف من البديل القادم، وحكم المعارضين القادمين من بعد نظام الأسد، الذين يقولون بالديمقراطيات ويمارسون عكوسها، ويطالبون ب”الدولة المدنية” ولا يريدونها إلا دولةً دينية ب”مرجعية سماوية”.


الأغلبية السورية الصامتة، لا تريد النظام بأيّ حالٍ من الأحوال، لكنها ليست مع المعارضة وبدائلها “الركيكة” أيضاً.
هي تكره النظام، ولكنها لا تحب معارضاته غير المطمئنة أيضاً.
لا مراء في أنّ العالم، بغربه وشرقه، أصدقاء وأعداء، قد لعب دوراً لا يُستهان به، في “تأجيل” و”تسويف” الثورة السورية إلى حلٍّ غير مسمى، لكن الحقيقة السورية أيضاً تقول: لولا رسوب المعارضات السورية، مجتمعةً بكلّ ألوانها وتياراتها وتكتلاتها، في إنجاز البديل المطلوب، لما نجح النظام حتى الآن، ولولا تسويف هذه المعارضات لوحدتها، لما بقي النظام موّحداً حتى الآن، ولولا هشاشة هذه المعارضات وركاكتها، لما بقي النظام قوياً متماسكاً حتى الآن.


النظام السوري مجرمٌ، لكنّ هذا لا يبرئ المعارضة.
النظام السوري ذئبٌ ينهش في الجسد السوري، لكنّ المعارضة السورية أيضاً لم تعد حملاً وديعاً.
سوريا، لسوء حظ ربيعها، تحوّلت على العكس من أخواتها في زفاف “الربيع العربي”، من “ضحيةٍ واحدة” لنظامٍ واحدٍ، كما كان من المفترض بها أن تكون، إلى “ضحيةٍ كثيرة”.
سوريا تحوّلت لشؤم حظ السوريين، إلى ضحية متعددة، مرّة، ومرّتين وأكثر.
هي الآن، ضحية ذاتها مرّتين؛ مرّة ضحية للنظام، وأخرى ضحية للمعارضة.
هي، ضحية الدولة والسياسة والإجتماع والمال.
هي، ضحية الدين والدنيا.
هي، ضحية تسييس الدين وتديّن السياسة.
هي، ضحية الداخل والخارج في آن.
هي، ضحية الذات والآخر؛ ضحية الأهل والغرباء، القريبين والبعيدين، العرب والعجم.
هي، الآن، من كلّها إلى كلّها، ضحية الكلّ معاً.
سوريا، تحوّلت بكلّ أسفٍ، إلى “حقٍّ كثير” يُراد بها باطل أكثر.
فهل من حقٍّ يجيب؟

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد حسو إن مسيرة الشعب الكوردي هي مسيرة نضال طويلة ومستمرة، لم تتوقف يومًا رغم الظروف الصعبة والتحديات المتراكمة، لأنها تنبع من إرادة راسخة ووعي عميق بحقوق مشروعة طال السعي إليها. ولا يمكن لهذه المسيرة أن تبلغ غايتها إلا بتحقيق الحرية الكاملة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التمييز القومي أو الديني…

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…