مُحامون ضد الصمت
المناطق الكُردية في سوريا هي تلك التي تقطنها غالبية كُردية و تتكون من مُحافظة الحسكة و عفرين و كوباني، إضافةً إلى تجمعات كُردية خارجها، منها إحياء بكاملها في مُدن سورية كبيرة يشكل فيها الكُرد الأكثرية مثل حي الأشرفية في حلب و أحياء أُخرى في دمشق.
إن ما يحدث في تلك المناطق منذُ بدء الثورة السورية يثير الإستغراب حقاً، فهي تخضع بالإضافة إلى القوانين السورية السارية المفعول إلى إجراءاتٍ على الأرض أقل ما يُقال عنها أنها كيفية و مزاجية تنفذها قوة أُخرى لا وجود لها أو لأجراءاتها في دستورٍ أو قانون، إذ أن كل الذي يشعر به المواطنون هو وجود قوتين متناغمتين تعملان في الوقت ذاته على البقعة الجغرافية ذاتها، إحداهما تجد في قوانين الدولة مبرراً لعملها، في حين تجد الأُخرى سندها في غض الأولى نظرها عن وجودها و أعمالها.
إن ما يحدث في تلك المناطق منذُ بدء الثورة السورية يثير الإستغراب حقاً، فهي تخضع بالإضافة إلى القوانين السورية السارية المفعول إلى إجراءاتٍ على الأرض أقل ما يُقال عنها أنها كيفية و مزاجية تنفذها قوة أُخرى لا وجود لها أو لأجراءاتها في دستورٍ أو قانون، إذ أن كل الذي يشعر به المواطنون هو وجود قوتين متناغمتين تعملان في الوقت ذاته على البقعة الجغرافية ذاتها، إحداهما تجد في قوانين الدولة مبرراً لعملها، في حين تجد الأُخرى سندها في غض الأولى نظرها عن وجودها و أعمالها.
و الحقيقة هي أن المرء يحتار في إيجاد التوصيف القانوني لتلك المناطق و ما يحدث فيها، و كذلك في توصيف القوة التي تدير ما يحدث، إذ ليس في القانون الدولي أو في القوانين المحلية لأية دولة عضو في الأمم المُتحدة ما يُشبه تلك الحالة الغريبة.
و لعل الحالة الوحيدة التي يمكن أن تخطر للمرء هنا، و هو إذ يُراقب ما يجري، هي قيام النظام العراقي السابق بسحب إداراته من إقليم كُردستان في بداية تسعينيات القرن الماضي، لكن حتى هذا الوضع نجده إذا ما تعمقنا في دراسته مختلفاً تماماً، فلقد إستلم الحزبان الكُرديان الرئيسيان (الإتحاد الوطني و الديمقراطي الكُردستاني) إقليم كُردستان بعد خلوه من أي مظهر سلطوي آخر، و أصبحا السلطة الوحيدة فيه، حيثُ أخذا يُطبقان قوانين الدولة العراقية، لكن مع إلغاء بعضها و تشريع أُخرى جديدة تناسب الوضع الجديد، أما في المناطق الكُردية السورية فلا يزال النظام موجوداً فعلياً في الشكل و المضمون، و تُطبق (السلطة الثانية) الإضافية قوانينها الخاصة الغير مكتوبة بشكلٍ خاص على الكُرد، هذا إن لم يكونوا هم الوحيدون المستهدفون (بقوانينها) الشفوية تلك، مما يجعلهم و الحالة هذه خاضعين لسلطتين في وقتٍ واحد.
سُلطة مزدوجة على الأرض
إذاً، بموازاة سُلطة الدولة التي تدير شؤون المنطقة الكُردية، ثمة (شبه سُلطة) موجودة على أرض الواقع في مجالات متعددة أهمها الأمن و الكثير من الأمور المُرتبطة بالمال.
إن أقل ما يُقال عن هذه السُلطة الثانية أنها (عشوائية)، لكنها تعادل الأولى (سُلطة النظام) إن لم تكن أكثر منها تدخلاً في بعض المجالات و خاصةً في خصوصيات المواطنين الكُرد.
إن هذه السلطة لا يستند وجودها كما ذُكر إلى نصٍ في الدستور أو في القانون، إذ ليس هناك نص قانوني يُعلن عن وجودها أو ينظمه، سواءٌ أكان ذلك من قبل النظام أو من قبلها هي نفسها، فهي لم تُصدر حتى بلاغاً تُعلن فيها عن تأسيسها، كل ما في الأمر هو أن المواطنون في المنطقة الكُردية قد تفاجؤا في يومٍ ما بظهور (حواجز الملثمين) في كل مكان إلى جانب حواجز النظام و هي تقوم بإيقافهم لتسألهم عن بطاقاتهم الشخصية، و تفتشهم و تفتش حاجياتهم و عرباتهم، ثم تتالت بعد ذلك مُفاجآت كثيرة من هذا النوع، حتى وصل الأمر إلى إدعاء السُلطة الجديدة، و أحد أكبر مظاهرها مُلثمون مُسلحون، عن إنها أصبحت السُلطة الوحيدة التي تدير المنطقة بعد (تحريرها من النظام)، و هكذا وضع حزب الإتحاد الديمقراطي و منظمات أٌخرى تتبعه، و التي تشكل بمجملها جزءاً من حزب العمال الكُردستاني التركي، و الذين يشكل المُلثمون واجهتهم جميعاً، وضعوا أيديهم على العديد من مؤسسات الدولة دون إطلاق رصاصة واحدة (اللهم إلا إحتفالاً)، عكس ما يحدث في المناطق السورية الأُخرى عند تحريرها من النظام، و لكن تبين فيما بعد أن هذه المؤسسات تنازل عنها النظام لذلك الحزب بمحض إرادته من خلال عملية إستلام و تسليم، و إن المواقع التي سلمها النظام للحزب لم تكن سوى مؤسسات هامشية سارع الأخير إلى رفع أعلامهُ عليها، فقد بقيت مراكز السلطة كالمحافظة و مديريات المناطق و مراكز المخابرات و جميع مؤسسات الدولة الهامة و الحيوية في أيدي النظام.
لكن العملية برمتها كانت شبه بإعلان عن سُلطة الظل بإعتبارها تستند إلى شرعية التحرير، و هكذا تابعت هذه السلطة إنشاء مؤسساتٍ خاصة بها تدير بها الهامش الذي تركهُ لها النظام، و هو هامش دسم في الواقع، من ذلك إنشاء ما يُسمى بالقضاء الشعبي و الذي يتم تنفيذه فيما يُسمى بـ (بيوت الشعب).
متهمون و تهم
الأشخاص الذين توجه لهم إتهامات في المناطق الكُردية السورية، و كذلك الذين يتم إعتقالهم هم من الكُرد الذين لهم خصومة مع حزب العُمال الكُردستاني و منظماته الكُردية السورية أو يُعارضون توجهاته و لا ينفذون أوامره، بعضهم ينتمي إلى أحزاب أخرى هي جزء من تنظيمات و مؤسسات مستحدثة، و بعضهم من المُستقلين، لكن القاسم المُشترك بين الجميع هو معارضتهم لنهج الحزب السياسي أو الأمني أو المالي، و هم و الحالة هذه لا يحوزون على رضا النظام السوري أيضاً.
و تعتبر التهم الموجهة لهؤلاء الوجه الآخر لتلك التي كان النظام السوري يوجهها لمعارضيه، إذ أن أبسط تهمة هي الخيانة و هي توجه بكل سهولة، و تعني مُخالفة المُتهم لنهج سلطة الظل، و هناك تهم أُخرى منها التواصل مع تركيا و العمالة لها، أو قبض الدولارات من أردوغان، و كذلك تهم رفع العلم التركي أو علم الثورة السورية، لكن هناك تهم أُخرى منها القتال في صفوف كتائب مُعادية منها كتائب سلفية، و إدخال السلاح إلى المنطقة أو محاولة إدخال الجيش الحُر إليها، أو التواصل مع ضباط الجيش السوري لتشجيعه على الإنشقاق و بذات الوقت مع تركيا لتسهيل إدخال هؤلاء إلى أراضيها بعد قبض الأموال منها، و هذه التهمة الأخيرة كانت من بين تهم أُخرى وجهت لأحدى الناشطات مؤخراً بعد أن جرى إختطافها، إلا أن ما يسبق هذه التهم أو يرافقها هو تشويه سمعة المستهدف و إغتياله معنوياً تمهيداً لإنهائه مادياً.
المهم في الموضوع هو أنه ليس هناك كتاب عقوبات أو ما يشبهه جامعٌ لهذه (الجرائم) و عقوباتها، فكل ما ذكر هي تهمٌ شفوية يعود تقديرها للشخص القائم على الأمر الذي يقوم بتوجيهها، و ما ذُكر من تهم هو على سبيل المثال لا الحصر، إذ أن الأمر يحتمل إستحداث تهم جديدة في كُل لحظة، من مثل ذلك قيام أحد عناصر تلك السلطة، و هو إذ يحث الآخرين على تسليم أسلحتهم إليه، بالإعلان بأن من يُضبط معهُ قطعة من السلاح خلال عشرة أيام من أمر التسليم فإنه سيتم وضعهُ في السجن لمدة عشرة سنوات.
إعتقالات و تنفيذ أحكام
مع ظهور (سُلطة الظل) الكُردية أصبح المواطن الكٌردي عُرضةً للمسائلة من جهتين: إحداهما هي سُلطة النظام و الأُخرى هي هذه، الجديدة، التي تتواجد على هامشه، و لا بد من التأكيد هنا ثانيةً على أن المواطن الكُردي هو وحده دون غيره من يخضع لهاتين السلطتين.
فقد إستمر النظام السوري بمعاملة الكُرد بمثل ما يتعامل به مع المواطنين السوريين الآخرين، و إذا كان النظام يعمد إلى إعتقال الناشطين في مراكز إعتقال معروفة في الغالب إلا أن سُلطة الظل تقوم بخطفهم و إخفائهم في أماكن مجهولة، و في ظروف إعتقال غير معروفة حتى أن البعض يذهب إلى حد القول أن بعض المخطوفين موجودون في معاقل الحزب في جبال قنديل، و خاصةً أولئك الذين إختفت آثارهم منذُ مدة طويلة.
و الواقع هو أن المواطن قد يتفاجئ بمجموعة ملثمين تقوم بتوقيفه أو تفتيش منزله في أي وقتٍ من الليل أو النهار دون إحترام حرمة المنزل.
و غالباً ما تكون إجراءات الإعتقال التعسفي مُشابهة لتلك التي يقوم بها النظام، بدءاً بعدم وجود مذكرة إعتقال، و من ثم ضرب المُعتقل منذُ لحظة إعتقاله حتى إيصاله إلى مركز التوقيف السري، و تعذيبه هناك بالوسائل ذاتها التي يمتلكها النظام، كما قد يجري الإعتداء بالضرب على أحدهم في عين المكان الذي إرتكب فيه (الجرم) بغية (تأديبه) و من ثم تركه و شأنه غارقاً في الإهانة، لكن الذي صدم المواطنين حقيقةً إضافةً إلى ذلك هو قيام سُلطة الظل بتنفيذ عقوبات قروسطية في وضح النهار، إذ قامت في حلب مثلاً بربط إمرأة على عضاضة بناء قيد الإنشاء في شارعٍ مُكتظ، و طلبت من المارة البصق عليها، ثم تكرر الأمر مع شابٍ تم ربطه بعامود إنارة، و في منطقة كوباني تم وضع آخرين في أكياس خيش حتى يعترفوا بالتهم الموجهة إليهم.
و قد حاول إعلام سُلطة الظل إعطاء الإنطباع بأن معتقلاتها معروفة المكان، و إن المُعتقلين يتمتعون فيها بالرعاية و حتى إمكانية التعليم، و إنه يُمكن للمعتقلين أن يحصلوا على الطعام الذي يرغبون فيه و ينعموا بالدفأ، و هو في الواقع ما تعجز هذه السلطة عن توفيره للمواطنين في الخارج، حيثُ سجنها الكبير الذي تديره مع النظام.
قُضاة أُميون
لكن ثمة أيضاً (قضاء) في المنطقة يقوم بالنظر في إتهامات موجهة إلى مُعتقلين جرى القبض عليهم بناءً على وشاية أو بلاغ من شخص مُتضرر، أو تم إعتقاله بناءً على شكوك السُلطة القائمة أو لمصلحتها، و هذا القضاء هو كُردي صرف من حيثُ القضاة و المدعون و المتهمون، و هنا فإن الشخص الذي يقوم بوظيفة القاضي هو شخصٌ غير مؤهل قانونياً، لا بل أن بعض القُضاة شبه أُميون، و هناك حالات لأشخاص بعضهم كان يعمل نجاراً أو حداداً أو مُعلم سيراميك و هو قاضٍ الآن في محاكم الشعب، و ليس للقاضي كتاب قانون يرجع إليه أو يستأنس به، فهو يستمع إلى الطرفين المُتقاضيين و يُصدر حكمه حسن قناعاته و في جلسةٍ واحدة، و يُحرم المتهم من الضمانات القانونية المًتمثلة في وجود مُحام يقف إلى جانبه، كما أن الحكم الذي يصدر يُعتبر قطعياً غير قابل للنقض، و في حال كان سبب التقاضي مالاً أو ما شابه ذلك تقوم المحكمة بتقاسم المبلغ مُناصفةً مع صاحبه في حال الحكم بإعادته إليه و ذلك على سبيل رسوم و أتعاب المحكمة.
الإقتصاد في المنطقة الكُردية
بدأت سُلطة الظل بجباية الأموال من المواطنين الكُرد في البداية بداعي حمايتهم بعد أن تكاثرت حوادث السرقة بشكلٍ مُفاجئ، بعد ذلك تابعت فرض الأتاوات عليهم من أجل تقديم خدماتها لهم، من قبيل تنظيم الحصول على الخُبز و الغاز و الديزل أو بيعه لهم في مرحلة لاحقة، لكن هناك معلومات تُفيد بحصول هذه السُلطة على مبلغٍ كبير مقطوع من النظام نفسهُ مُقابل حماية آبار البترول في حقول الرميلان، إلا أن أوضح مثالٍ على المكاسب الإقتصادية لسلطة الظل تتجلى في المنطقة الحدودية الفاصلة مع إقليم كُردستان، و التي وضعت يدها عليها بداعي حمايتها، و الحقيقة أنه لا أخطار من الإقليم الكُردي العراقي على المنطقة الكُردية السورية أو سوريا عموماً يستوجب حماية الحدود معهُ.
و قد تنوعت الأعمال التي كسبت منها سُلطة الظل الأموال من الحدود السورية مع إقليم كُردستان، فقد فرضت على كل شخص يُغادر إلى الإقليم أن يقوم بتسجيل إسمه لديها لدفع مبلغٍ مقطوعٍ لها تحت طائلة منعه من المُغادرة، أما عند العودة فيتم فرض مبالغ على المواد التي يدخلها الشخص معه و التي تصل في بعض الأحيان إلى نصف قيمة المادة، إضافةً إلى إرغام المُسافر على إستعمال وسائل المواصلات العائدة لها، لكن الفائدة الكُبرى كانت في عمليات التهريب التي رعتها هذه السلطة أو قامت بها بنفسها و التي درت عليها ملايين الدولارات.
و هنا لا بُد من ذكر مثال أخير لمعرفة العقلية التي تُدير بها سُلطة الظل القطاعات المسموح لها بإدارتها، فقد إستولت هذه السُلطة مؤخراً على فندق (هدايا) العريق و الذي كان مُغلقاً لحين فض نزاعٍ بين ورثة مالكه المتوفي، ثم قامت بجعل الفندق شبه شركة أو بلدية خاصة تقوم بتقديم خدماتها للمحتاجين مقابل عمولة، و لا تسمح لشركات أُخرى منافسة بالنشوء أو بالمنافسة في العمل في قطاع الخدمات هذا، فإذا تجمعت القُمامة مثلاً في حيِّ ما أو أحد شوارعه يذهب المواطنون القاطنون فيه إلى (بلدية هدايا) لتقديم طلب شفوي لترحيلها، حيث تقوم الأخيرة حينها بذلك مُقابل مبلغ معلوم يُتفق عليه.
لكن هناك عمليات مُستمرة لمُصادرة أملاك المواطنين لصالح سلطة الظل التي تنتقل كلما شاء لها إلى العمل تحت نور الشمس لكن خلف أقنعة المُلثمين.
أخيراً فإن أخطر ما يحدث في المنطقة الكُردية السورية هو قيام السلطة الثانية بتجنيد آلاف الشبان الصغار لغايات ليست كلها معروفة بعد، و تشكل تلك القوات العسكرية العمود الفقري لوجودها إن لم يكن وجودها متوقف على أولئك المُسلحين، و تستفرد تلك القوات بإتخاذ قرارات الحرب و السلم، و بالتالي أخذ المنطقة إلى حيثُ تشاء، ففي مدينة سريه كانْيه مثلاً قامت بتجنيد الشبان الكُرد و حشدهم للوقوف في وجه من أسمتهم (الكتائب الأردوغانية الطالبانية الإرهابية المُسلحة) لمنعها من دخول المدينة، و بعد إشتباكات يومية قُتل فيها العشرات و تدمير حوالي ثمانين بالمائة من المدينة قامت بتوقيع إتفاق مع تلك الكتائب غيرت بموجبه توصيفها لها فأصبحت تعترف بأنها كانت من كتائب الجيش الحُر، مع أن لا شئ يُبيح لها القيام بالحرب و تجنيد المُقاتلين، لكن المُستغرب في الأمر هو أن لا أحد يعرف على وجه التحديد الجهة القائمة على الكتائب المُسلحة لهذه السلطة، و مصادر تمويلها و تسليحها، حتى أن مُقاتليها غير معروفين نظراً لأنهم يخفون وجوههم بوضع الأشمخة عليها.
مُحامون ضد الصمت
pdb13@hotmail.de
فيسبوك
https://www.facebook.com/pages/Par%C3%AAzer%C3%AAn-li-dij%C3%AE-b%C3%AAdengiy%C3%AA-%D9%85%D8%AD%D8%A7%D9%85%D9%88%D9%86-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%85%D8%AA/153858644778923?hc_location=timeline
و لعل الحالة الوحيدة التي يمكن أن تخطر للمرء هنا، و هو إذ يُراقب ما يجري، هي قيام النظام العراقي السابق بسحب إداراته من إقليم كُردستان في بداية تسعينيات القرن الماضي، لكن حتى هذا الوضع نجده إذا ما تعمقنا في دراسته مختلفاً تماماً، فلقد إستلم الحزبان الكُرديان الرئيسيان (الإتحاد الوطني و الديمقراطي الكُردستاني) إقليم كُردستان بعد خلوه من أي مظهر سلطوي آخر، و أصبحا السلطة الوحيدة فيه، حيثُ أخذا يُطبقان قوانين الدولة العراقية، لكن مع إلغاء بعضها و تشريع أُخرى جديدة تناسب الوضع الجديد، أما في المناطق الكُردية السورية فلا يزال النظام موجوداً فعلياً في الشكل و المضمون، و تُطبق (السلطة الثانية) الإضافية قوانينها الخاصة الغير مكتوبة بشكلٍ خاص على الكُرد، هذا إن لم يكونوا هم الوحيدون المستهدفون (بقوانينها) الشفوية تلك، مما يجعلهم و الحالة هذه خاضعين لسلطتين في وقتٍ واحد.
سُلطة مزدوجة على الأرض
إذاً، بموازاة سُلطة الدولة التي تدير شؤون المنطقة الكُردية، ثمة (شبه سُلطة) موجودة على أرض الواقع في مجالات متعددة أهمها الأمن و الكثير من الأمور المُرتبطة بالمال.
إن أقل ما يُقال عن هذه السُلطة الثانية أنها (عشوائية)، لكنها تعادل الأولى (سُلطة النظام) إن لم تكن أكثر منها تدخلاً في بعض المجالات و خاصةً في خصوصيات المواطنين الكُرد.
إن هذه السلطة لا يستند وجودها كما ذُكر إلى نصٍ في الدستور أو في القانون، إذ ليس هناك نص قانوني يُعلن عن وجودها أو ينظمه، سواءٌ أكان ذلك من قبل النظام أو من قبلها هي نفسها، فهي لم تُصدر حتى بلاغاً تُعلن فيها عن تأسيسها، كل ما في الأمر هو أن المواطنون في المنطقة الكُردية قد تفاجؤا في يومٍ ما بظهور (حواجز الملثمين) في كل مكان إلى جانب حواجز النظام و هي تقوم بإيقافهم لتسألهم عن بطاقاتهم الشخصية، و تفتشهم و تفتش حاجياتهم و عرباتهم، ثم تتالت بعد ذلك مُفاجآت كثيرة من هذا النوع، حتى وصل الأمر إلى إدعاء السُلطة الجديدة، و أحد أكبر مظاهرها مُلثمون مُسلحون، عن إنها أصبحت السُلطة الوحيدة التي تدير المنطقة بعد (تحريرها من النظام)، و هكذا وضع حزب الإتحاد الديمقراطي و منظمات أٌخرى تتبعه، و التي تشكل بمجملها جزءاً من حزب العمال الكُردستاني التركي، و الذين يشكل المُلثمون واجهتهم جميعاً، وضعوا أيديهم على العديد من مؤسسات الدولة دون إطلاق رصاصة واحدة (اللهم إلا إحتفالاً)، عكس ما يحدث في المناطق السورية الأُخرى عند تحريرها من النظام، و لكن تبين فيما بعد أن هذه المؤسسات تنازل عنها النظام لذلك الحزب بمحض إرادته من خلال عملية إستلام و تسليم، و إن المواقع التي سلمها النظام للحزب لم تكن سوى مؤسسات هامشية سارع الأخير إلى رفع أعلامهُ عليها، فقد بقيت مراكز السلطة كالمحافظة و مديريات المناطق و مراكز المخابرات و جميع مؤسسات الدولة الهامة و الحيوية في أيدي النظام.
لكن العملية برمتها كانت شبه بإعلان عن سُلطة الظل بإعتبارها تستند إلى شرعية التحرير، و هكذا تابعت هذه السلطة إنشاء مؤسساتٍ خاصة بها تدير بها الهامش الذي تركهُ لها النظام، و هو هامش دسم في الواقع، من ذلك إنشاء ما يُسمى بالقضاء الشعبي و الذي يتم تنفيذه فيما يُسمى بـ (بيوت الشعب).
متهمون و تهم
الأشخاص الذين توجه لهم إتهامات في المناطق الكُردية السورية، و كذلك الذين يتم إعتقالهم هم من الكُرد الذين لهم خصومة مع حزب العُمال الكُردستاني و منظماته الكُردية السورية أو يُعارضون توجهاته و لا ينفذون أوامره، بعضهم ينتمي إلى أحزاب أخرى هي جزء من تنظيمات و مؤسسات مستحدثة، و بعضهم من المُستقلين، لكن القاسم المُشترك بين الجميع هو معارضتهم لنهج الحزب السياسي أو الأمني أو المالي، و هم و الحالة هذه لا يحوزون على رضا النظام السوري أيضاً.
و تعتبر التهم الموجهة لهؤلاء الوجه الآخر لتلك التي كان النظام السوري يوجهها لمعارضيه، إذ أن أبسط تهمة هي الخيانة و هي توجه بكل سهولة، و تعني مُخالفة المُتهم لنهج سلطة الظل، و هناك تهم أُخرى منها التواصل مع تركيا و العمالة لها، أو قبض الدولارات من أردوغان، و كذلك تهم رفع العلم التركي أو علم الثورة السورية، لكن هناك تهم أُخرى منها القتال في صفوف كتائب مُعادية منها كتائب سلفية، و إدخال السلاح إلى المنطقة أو محاولة إدخال الجيش الحُر إليها، أو التواصل مع ضباط الجيش السوري لتشجيعه على الإنشقاق و بذات الوقت مع تركيا لتسهيل إدخال هؤلاء إلى أراضيها بعد قبض الأموال منها، و هذه التهمة الأخيرة كانت من بين تهم أُخرى وجهت لأحدى الناشطات مؤخراً بعد أن جرى إختطافها، إلا أن ما يسبق هذه التهم أو يرافقها هو تشويه سمعة المستهدف و إغتياله معنوياً تمهيداً لإنهائه مادياً.
المهم في الموضوع هو أنه ليس هناك كتاب عقوبات أو ما يشبهه جامعٌ لهذه (الجرائم) و عقوباتها، فكل ما ذكر هي تهمٌ شفوية يعود تقديرها للشخص القائم على الأمر الذي يقوم بتوجيهها، و ما ذُكر من تهم هو على سبيل المثال لا الحصر، إذ أن الأمر يحتمل إستحداث تهم جديدة في كُل لحظة، من مثل ذلك قيام أحد عناصر تلك السلطة، و هو إذ يحث الآخرين على تسليم أسلحتهم إليه، بالإعلان بأن من يُضبط معهُ قطعة من السلاح خلال عشرة أيام من أمر التسليم فإنه سيتم وضعهُ في السجن لمدة عشرة سنوات.
إعتقالات و تنفيذ أحكام
مع ظهور (سُلطة الظل) الكُردية أصبح المواطن الكٌردي عُرضةً للمسائلة من جهتين: إحداهما هي سُلطة النظام و الأُخرى هي هذه، الجديدة، التي تتواجد على هامشه، و لا بد من التأكيد هنا ثانيةً على أن المواطن الكُردي هو وحده دون غيره من يخضع لهاتين السلطتين.
فقد إستمر النظام السوري بمعاملة الكُرد بمثل ما يتعامل به مع المواطنين السوريين الآخرين، و إذا كان النظام يعمد إلى إعتقال الناشطين في مراكز إعتقال معروفة في الغالب إلا أن سُلطة الظل تقوم بخطفهم و إخفائهم في أماكن مجهولة، و في ظروف إعتقال غير معروفة حتى أن البعض يذهب إلى حد القول أن بعض المخطوفين موجودون في معاقل الحزب في جبال قنديل، و خاصةً أولئك الذين إختفت آثارهم منذُ مدة طويلة.
و الواقع هو أن المواطن قد يتفاجئ بمجموعة ملثمين تقوم بتوقيفه أو تفتيش منزله في أي وقتٍ من الليل أو النهار دون إحترام حرمة المنزل.
و غالباً ما تكون إجراءات الإعتقال التعسفي مُشابهة لتلك التي يقوم بها النظام، بدءاً بعدم وجود مذكرة إعتقال، و من ثم ضرب المُعتقل منذُ لحظة إعتقاله حتى إيصاله إلى مركز التوقيف السري، و تعذيبه هناك بالوسائل ذاتها التي يمتلكها النظام، كما قد يجري الإعتداء بالضرب على أحدهم في عين المكان الذي إرتكب فيه (الجرم) بغية (تأديبه) و من ثم تركه و شأنه غارقاً في الإهانة، لكن الذي صدم المواطنين حقيقةً إضافةً إلى ذلك هو قيام سُلطة الظل بتنفيذ عقوبات قروسطية في وضح النهار، إذ قامت في حلب مثلاً بربط إمرأة على عضاضة بناء قيد الإنشاء في شارعٍ مُكتظ، و طلبت من المارة البصق عليها، ثم تكرر الأمر مع شابٍ تم ربطه بعامود إنارة، و في منطقة كوباني تم وضع آخرين في أكياس خيش حتى يعترفوا بالتهم الموجهة إليهم.
و قد حاول إعلام سُلطة الظل إعطاء الإنطباع بأن معتقلاتها معروفة المكان، و إن المُعتقلين يتمتعون فيها بالرعاية و حتى إمكانية التعليم، و إنه يُمكن للمعتقلين أن يحصلوا على الطعام الذي يرغبون فيه و ينعموا بالدفأ، و هو في الواقع ما تعجز هذه السلطة عن توفيره للمواطنين في الخارج، حيثُ سجنها الكبير الذي تديره مع النظام.
قُضاة أُميون
لكن ثمة أيضاً (قضاء) في المنطقة يقوم بالنظر في إتهامات موجهة إلى مُعتقلين جرى القبض عليهم بناءً على وشاية أو بلاغ من شخص مُتضرر، أو تم إعتقاله بناءً على شكوك السُلطة القائمة أو لمصلحتها، و هذا القضاء هو كُردي صرف من حيثُ القضاة و المدعون و المتهمون، و هنا فإن الشخص الذي يقوم بوظيفة القاضي هو شخصٌ غير مؤهل قانونياً، لا بل أن بعض القُضاة شبه أُميون، و هناك حالات لأشخاص بعضهم كان يعمل نجاراً أو حداداً أو مُعلم سيراميك و هو قاضٍ الآن في محاكم الشعب، و ليس للقاضي كتاب قانون يرجع إليه أو يستأنس به، فهو يستمع إلى الطرفين المُتقاضيين و يُصدر حكمه حسن قناعاته و في جلسةٍ واحدة، و يُحرم المتهم من الضمانات القانونية المًتمثلة في وجود مُحام يقف إلى جانبه، كما أن الحكم الذي يصدر يُعتبر قطعياً غير قابل للنقض، و في حال كان سبب التقاضي مالاً أو ما شابه ذلك تقوم المحكمة بتقاسم المبلغ مُناصفةً مع صاحبه في حال الحكم بإعادته إليه و ذلك على سبيل رسوم و أتعاب المحكمة.
الإقتصاد في المنطقة الكُردية
بدأت سُلطة الظل بجباية الأموال من المواطنين الكُرد في البداية بداعي حمايتهم بعد أن تكاثرت حوادث السرقة بشكلٍ مُفاجئ، بعد ذلك تابعت فرض الأتاوات عليهم من أجل تقديم خدماتها لهم، من قبيل تنظيم الحصول على الخُبز و الغاز و الديزل أو بيعه لهم في مرحلة لاحقة، لكن هناك معلومات تُفيد بحصول هذه السُلطة على مبلغٍ كبير مقطوع من النظام نفسهُ مُقابل حماية آبار البترول في حقول الرميلان، إلا أن أوضح مثالٍ على المكاسب الإقتصادية لسلطة الظل تتجلى في المنطقة الحدودية الفاصلة مع إقليم كُردستان، و التي وضعت يدها عليها بداعي حمايتها، و الحقيقة أنه لا أخطار من الإقليم الكُردي العراقي على المنطقة الكُردية السورية أو سوريا عموماً يستوجب حماية الحدود معهُ.
و قد تنوعت الأعمال التي كسبت منها سُلطة الظل الأموال من الحدود السورية مع إقليم كُردستان، فقد فرضت على كل شخص يُغادر إلى الإقليم أن يقوم بتسجيل إسمه لديها لدفع مبلغٍ مقطوعٍ لها تحت طائلة منعه من المُغادرة، أما عند العودة فيتم فرض مبالغ على المواد التي يدخلها الشخص معه و التي تصل في بعض الأحيان إلى نصف قيمة المادة، إضافةً إلى إرغام المُسافر على إستعمال وسائل المواصلات العائدة لها، لكن الفائدة الكُبرى كانت في عمليات التهريب التي رعتها هذه السلطة أو قامت بها بنفسها و التي درت عليها ملايين الدولارات.
و هنا لا بُد من ذكر مثال أخير لمعرفة العقلية التي تُدير بها سُلطة الظل القطاعات المسموح لها بإدارتها، فقد إستولت هذه السُلطة مؤخراً على فندق (هدايا) العريق و الذي كان مُغلقاً لحين فض نزاعٍ بين ورثة مالكه المتوفي، ثم قامت بجعل الفندق شبه شركة أو بلدية خاصة تقوم بتقديم خدماتها للمحتاجين مقابل عمولة، و لا تسمح لشركات أُخرى منافسة بالنشوء أو بالمنافسة في العمل في قطاع الخدمات هذا، فإذا تجمعت القُمامة مثلاً في حيِّ ما أو أحد شوارعه يذهب المواطنون القاطنون فيه إلى (بلدية هدايا) لتقديم طلب شفوي لترحيلها، حيث تقوم الأخيرة حينها بذلك مُقابل مبلغ معلوم يُتفق عليه.
لكن هناك عمليات مُستمرة لمُصادرة أملاك المواطنين لصالح سلطة الظل التي تنتقل كلما شاء لها إلى العمل تحت نور الشمس لكن خلف أقنعة المُلثمين.
أخيراً فإن أخطر ما يحدث في المنطقة الكُردية السورية هو قيام السلطة الثانية بتجنيد آلاف الشبان الصغار لغايات ليست كلها معروفة بعد، و تشكل تلك القوات العسكرية العمود الفقري لوجودها إن لم يكن وجودها متوقف على أولئك المُسلحين، و تستفرد تلك القوات بإتخاذ قرارات الحرب و السلم، و بالتالي أخذ المنطقة إلى حيثُ تشاء، ففي مدينة سريه كانْيه مثلاً قامت بتجنيد الشبان الكُرد و حشدهم للوقوف في وجه من أسمتهم (الكتائب الأردوغانية الطالبانية الإرهابية المُسلحة) لمنعها من دخول المدينة، و بعد إشتباكات يومية قُتل فيها العشرات و تدمير حوالي ثمانين بالمائة من المدينة قامت بتوقيع إتفاق مع تلك الكتائب غيرت بموجبه توصيفها لها فأصبحت تعترف بأنها كانت من كتائب الجيش الحُر، مع أن لا شئ يُبيح لها القيام بالحرب و تجنيد المُقاتلين، لكن المُستغرب في الأمر هو أن لا أحد يعرف على وجه التحديد الجهة القائمة على الكتائب المُسلحة لهذه السلطة، و مصادر تمويلها و تسليحها، حتى أن مُقاتليها غير معروفين نظراً لأنهم يخفون وجوههم بوضع الأشمخة عليها.
مُحامون ضد الصمت
pdb13@hotmail.de
فيسبوك
https://www.facebook.com/pages/Par%C3%AAzer%C3%AAn-li-dij%C3%AE-b%C3%AAdengiy%C3%AA-%D9%85%D8%AD%D8%A7%D9%85%D9%88%D9%86-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%85%D8%AA/153858644778923?hc_location=timeline