الدولة الكوردية (1-2)

جان كورد

يعتبر موضوع ” الدولة الكوردية” في نظري من أهم الموضوعات المهملة إلى حدٍ كبير في الحياة السياسية للكورد، منذ القضاء على ثورة (خويبون–Xweybûn) التي اندلعت في شمال كوردستان (1927-1930) قضاءً لا مثيل له في الهمجية من قبل الحكومة التركية.

تلك الثورة التي قادها الجنرال إحسان نوري باشا وسجلت صفحة رائعة من صفحات الكفاح التحرري للأمة الكوردية.

وكأني بالكاريكاتورالتركي الشهير آنذاك عن النهاية المأساوية للثورة ينطق تماماً بما يجول في أذهان العنصريين الترك أبداً مثلما يعكس الصورة التي استقرت في عقول السياسيين الكورد منذ ذلك الحين وإلى الآن.

والكاريكاتور هو عبارة عن رسمٍ بسيطٍ لقبرٍ على ذرى جبل آگري، مكتوب على شاهده الذي تعلوه عمامة كوردية عبارة (هنا يرقد حلم الدولة الكوردية) أو ماشابه ذلك.
عندما تطرق الزعيم الصهيوني الكبير تيودور هيرتزل إلى “الدولة اليهودية” لم تكن هناك في “أرض الميعاد” سوى فئة قليلة من الشعب اليهودي، وكان اليهود قد تعرضوا إلى سلسلة طويلة من المجازر في أنحاء مختلفة من العالم، حيث وجدوا، ومع ذلك فإن الدعوة الصارخة والملحة لقيام “دولة” تضم كل شعبه صارت هدفه الأساسي، وشرع للعمل له بصبرٍ وعزمٍ ودون فتور، في حين أن قيادات الشعب الكوردي تخلت عن هذا الأمر (الدولة الكوردية) الأشد أهمية بذريعة أنهم يستطيعون العمل من أجل رفع الظلم عن كاهل شعبهم الذي يعيش على أرض وطنه وليس في الشتات كاليهود، (فقط) ضمن الأطر السياسية التي أفرزتها معاهدة سايكس – بيكو الاستعمارية لعام 1916 والتي بموجبها تم تكريس التقسيم والتجزئة لكوردستان دون أي موافقة من قبل شعبها، تماماً كما يتم التفريق بين الغنم أوالماعز  في الأسواق من قبل البائعين والشارين.

وشرع بعضهم يعتنق الأفكار التي تجسمت في شكلٍ مخيف، وكأن أي تجاوزٍ لتلك الخطوط الحمر يعني تعريض شعبنا إلى مجزرة إبادة لامثيل لها في التاريخ، ونسوا أن الشعوب السورية قد فرضت وحدة “الدويلات” التي أقامها الفرنسيون من خلال الثورة رغم كل الموانع الاستعمارية حتى صارت لديه دولة سوريا الموحدة والمستقلة في عام 1946م.

بل إن الحديث عن “الدولة الكوردية” بات من محرمات السياسة القومية لدى الكورد، ولا يزال لدى قادةٍ وسياسيين كبارمجرد “قرع طبل فارغ!” أو مشروع “حلمفي رؤوس بعض الشباب الخياليين الذين فقدوا الاتصال بواقعهم”، إلا أنهم لم يستطيعوا اقناع شعبنا بالتخلي عن هذا الحلم كما لم يتمكنوا من إقناعه بسبب عدم انقطاع مسلسل المجازر وحملات الإبادة ضد شعبنا، رغم تخلي قياداته عن مشروع “الدولة الكوردية”، ولماذا فشلت المشاريع “الواقعية” واحداً بعد الآخر، طوال عقودٍ من الزمن مقابل نجاح قادة اليهود في مشروعهم الذي بدا في البداية حلماً وخيالاً وسراباً.
نعم، لم تتحقق المشاريع القومية الكوردية رغم “واقعيتها” ورغم “عدم تجاوزها الخطوط الحمر” التي وضعتها دول كانت كبرى وقوية في الماضي ولكنها لم تعد كذلك بعد مرور فترةٍ من الزمن على معاهدتها الدنيئة تلك، والمجازر المروعة ضد شعبنا لم تتوقف رغم سياسة التخلي عن الهدف الأسمى لأحزابه وقياداته.


ففي شرق كوردستان الخاضعة للدولة الفارسية، فشلت جمهورية كوردستان (1946-1947) المتواضعة الأهداف التي أسسها الحزب الديموقراطي الكوردستاني(PDK-Iran)  برئاسة الرئيس الشهيد والعالم الجليل القاضي محمد، وبعدها الثورة التي قادها الحزب ذاته في عام 1980م في ظل قيادة الزعيم الاشتراكي الديموقراطي الشهير الدكتور عبد الرحمن قاسملو الذي اغتالته الحكومة (اللا-إسلامية) الفارسية على طاولة المفاوضات في فيينا في عام 1989م، كما انطفأت فجأةً شعلة نار الثورة التي قادها حزب (بژاك –PJAK) الفرع الإيراني التابع لحزب العمال الكوردستانيPKK، وذلك جراء “صفقةٍ سياسية” ما بين الحزب الأخير  وحكومة الملالي في طهران بصدد ما يجري على الأرض السورية، منذ اندلاع ثورة الشعب السوري المجيدة قبل ثلاث سنوات.
أما في شمال كوردستان، فقد تعطلت ثورة حزب العمال الكوردستاني المندلعة في عام 1984م بمجرد اعتقال واختطاف رئيسه، في كينيا الأفريقية التي بحث فيها عن مأوى له، بعد ارغامه على الخروج من سوريا، وتخلت عن أهدافها الكبرى، التي كانت حسب قناعة الكثيرين من الكورد وغير الكورد “تحرير واستقلال كوردستان!” ولكنها مع الأسف لم تكن كذلك، وتلك القناعة لم تعتمد على أساس، بل كانت ناجمة عن “معلومات خاطئة” تماماً، إذ ليس هناك أي بندٍ بهذا الصدد في وثائق الحزب الأساسية التي بنى عليها استراتيجيته وقاتل من أجلها، بل على العكس من ذلك كانت هناك على الدوام تأكيدات من جانب رئيس الحزب، الزعيم الشهير عبد الله أوجلان، على أنه لايريد المساس بحدود الدولة التركية، وأثناء محاكمته وبعدها ظهر هذا جلياً للغاية في سياسة حزبه وفي كتاباته، ومنها على الأخص في دفاعه الطويل المستميت عن نفسه وعن ولائه للدولة التركية وعن رفضه لفكرة الدولة القومية الكوردية التي اعتبرها “رجعية” و”غير  واقعية!”، ذلك الدفاع الذي رفعه عن طريق محاميه إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

كما أن السيد أوجلان قد رفض سابقاً وجود جزءٍ من كوردستان في سوريا في مقابلته الشهيرة (سبعة أيام مع آبو) مع الصحافي العربي نبيل الملحم، مقتدياً في ذلك بقادة كوردٍ آخرين سبقوه في التنكر لجزءٍ من كوردستان، بل إن هناك أحزاباً “كوردستانية!!!” قد تحدثت في أدبياتها الحزبية عن وجود (3) أجزاء من كوردستان فقط.
أما بالنسبة إلى جنوب كوردستان، فلقد وصلت الأوضاع فيه إلى درجةٍ يمكن القول عندها بأن في هذا الجزء من كوردستان أو في هذا الإقليم “دولة الأمر الواقع –State de facto”، فقد تم تحقيق إنجازاتٍ عظيمة على مختلف الصعد، وفي مقدمتها إعادة إعمار معظم ما تم تدميره للبنى التحتية في عهود الطغيان العنصري لحكومات العراق المتتالية، وإقامة نظامٍ برلماني تعددي على الرغم من نواقصه، وتحقيق الأمن والاستقرار بالنسبة إلى العراق الغارق في  الفوضى والتقتيل والإرهاب، كما تم إقامة علاقاتٍ متوازنة مع الحكومة المركزية وحكومات الجوار، والبدء بعملية الإنتاج الذاتي للبترول الوطني، والسير بخطى حثيثة لبناء جيشٍ كوردي فائق القدرات وجامعات ومعاهد جيدة، ولإيجاد بنيةٍ تحتية شاملة وقادرة على العيش، وذلك رغم الضغوط الهائلة التي تمارسها حكومتا طهران وبغداد على الإقليم، ورغم سياسة الاحتواء الاقتصادي – السياسي التركية لحزب التنمية والعدالة الحاكم في أنقره.
إلا أن الحقيقة تكمن في بقاء مساحاتٍ شاسعة من أرض جنوب كوردستان تحت سيطرة الحكومة المركزية، تسمى تلطفاً ب”المناطق المتنازع عليها” وهي أرض كوردية تاريخياً، تم اقتطاعها إدارياً وتعريبها قسرياً بإقامة مستوطنات عربية كثيرة وتطبيق سياسة إسكان عربية صارمة حيالها، وعن طريق تشجيع العرب مادياً ومعنوياً وشحنهم بالنزعة العنصرية للسكنى فيها، وبخاصة منذ استيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على دست الحكم في العراق في ستينيات القرن الماضي ، كما أن موضوع مدينة كركوك الثرية بالبترول لا يزال بعيداً عن الحل، على الرغم من وجود مادة دستورية خاصة به، ولذا فإن الحديث عن “دولة كوردية” في جنوب كوردستان يعني القبول بالإعلان عن “دولة ناقصة” لا تلبي طموح شعبنا في الإقليم، ناهيك عن طموح الأمة الكوردية، العادل والطبيعي حسب الشرع الرباني والقوانين الدولية.
تصدر عن زعماء الكورد وقادتهم في جنوب كوردستان تصريحات حول “حق الكورد في أن تكون لهم دولة” وعن “الحق في الاستقلال”، إلا أن هذه التصريحات تبقى مجرد “أماني” أو تكتيكات إعلامية قصيرة المدى بهدف إرضاء الشعب الكوردي الذي لن يتخلى عن حقه في دولة مستقلة، ذلك لأن هذه التصريحات تتعارض تماماً مع تلك التي تؤكد على أن “الشعب الكوردي اختار العيش المشترك مع العرب ضمن حدود العراق الفيدرالي الموحد، وصادقت الكتلة الكوردية في البرلمان العراق على الدستور الذي يتضمن فقراتٍ عن الحق الكوردي ضمن الدولة العراقية، كما لا يفهم القصد منها بشكلٍ جيد، أهي ” كوردستان الكبرى” أم “دولة في جنوب كوردستان” أم  “جنوب كوردستان من دون كركوك” والمناطق التي لاتزال تحت قبضة النظام…
كانت التربية الحزبية ولا تزال في مختلف فصائل الحركة القومية الكوردية في غرب كوردستان، منذ ولادة أول تنظيم سياسي كوردي سوري، الحزب الديموقراطي الكوردستاني – سوريا، في عام 1957م، تربيةً ذات عمقٍ كوردستاني أصيل، لأن هذه الحركة جزء هام من الميراث الثوري القومي لجيلٍ كاملٍ من مناضلي أمتنا في الأجزاء الأخرى من كوردستان، وبخاصة أولئك المشردين من شمال كوردستان، مثل البدرخانيين والعم أوصمان صبري (آبو) والدكتور نور الدين زازا والدكتور نورالدين ديرسمي والشاعر جيگر خوين وآخرين من شعراء وفنانين، الذين عاشوا فترة من حياتهم في خضم حرب التحرير الوطنية في شمال كوردستان وجزأً من حياتهم في سوريا أثناء الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي.

وما بعده، إضافة إلى التأثير العميق لثورة أيلول المجيدة (1961-1975) وشخصية قائدها الخالد البارزاني مصطفى في عمق الحركة الوطنية لغرب كوردستان.

إلا أن التحاق عددٍ كبير من فتيان وفتيات الكورد السوريين بالثورة التي أعلنها حزب العمال الكوردستاني ضد العسكريتاريا التركية في عام 1984 كان له أعمق الأثر عملياً في تنامي الوعي الكوردستاني العملي بين الشباب الكورد، على الرغم من الإحباط الكبير الذي أصاب هؤلاء المقاتلين الذين تركوا جامعاتهم ومدارسهم والتحقوا بالثورة بسبب تخلي قائدهم عن أهداف حزبهم وعن مشروعهم القومي إجمالاً، إذ لا أعتقد أن كوردياً سورياً واحداً قد التحق بالثورة في شمال كوردستان من أجل ترسيخ الأفكار الآتاتوركية أو  ل”دمقرطة” تركيا…
إن “الإدارة الذاتية الديموقراطية” المؤقتة أو الدائمة، واللا قومية، حسب تصريحات وبيانات الداعين إليها والساعين من أجلها، تشكل “معضلة سياسية”، وهي الإدارة التي أعلن عن قيامها حزب الاتحاد الديموقراطي (PYD)الفرع السوري التابع لحزب العمال الكوردستاني (PKK)، وقد جر إليها تنظيماتٍ وشخصياتٍ أخرى، كوردية وغير كوردية، منها غير موجودة واقعياً، والسبب في أن هذه الإدارة معضلة سياسية، كونها تشكلت دون أخذ رأي قوى المعارضة الوطنية والديموقراطية السورية والأحزاب الكوردية الأهم شأناً من تلك التي يفتخر حزب الاتحاد الديموقراطي باصطفافهم خلفه.

ويعتبربعض النقاد أن هذا الاجراء الذي يبدو مؤقتاً حتى يستبد الأمن العام في المنطقة الكوردية شمال البلاد، قد تم بموافقة من قبل النظام ذاته، مقابل عدم انضمام حزب الاتحاد الديموقراطي إلى صف المعارضة المطالبة بإسقاطه كلياً.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإن هذه الإدارة لاتختلف عن “الإدارة المحلية” التي أوجدها النظام البعثي في سوريا، وهو خالٍ من المضامين القومية التي تعمل وفقها الحركة الوطنية الكوردية.

بل يعتقد البعض من السوريين بأن هذه الإدارة محاولة لإفشال العلاقة بين المجلس الوطني الكوردي وائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية.

وقد أعلن أكثر من جهة كوردية سورية عن رفضها لهذه المحاولة التي ستفرز إفرازاتٍ خطيرة، في غياب التعاون والتنسيق بين مختلف أطراف الحركة الكوردية، في داخل سوريا وخارجها.
23‏ كانون الأول‏، 2013

 (يتبع…)

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…