حق الشعوب في تقرير مصيرها بين المواثيق والعهود الدولية ومفهوم الإدارة الذاتية

  عبدالرحمن كلو *

في هذه المرحلة الإنعطافية من تاريخ العالم عموماً والشرق الأوسط خصوصاً  تفرض علينا مجريات الأحداث أن نعود إلى الترجمة الفعلية للكثير من المفاهيم النظرية، التي طالما بقيت معلبةً في مرحلة الصراع بين القوتين العظميين ، بحسب الشروط التي فرضتها قوانين الحرب الباردة وأهمية أدواتها في الأطراف والأقاليم البعيدة ، والتحول أياً كان موضعه و بكل الاتجاهات كان خاضعاً للاتفاق أو التوافق  بحسب منطقة النفوذ والتفاهمات المبدئية بين القطبين المحركين للأحداث، لكن مع انهيار الدولة السوفييتية ومنظومة قوتها بدأت المتغيرات العالمية تسير وفق قوانين مختلفة ومتمايزة إلى حد كبير، حتى جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتكون بدايةً لعالم آخر مختلف،

بداية عهد جديد بدا وكأنه لا ينتمي إلى العهود السابقة للصراعات التقليدية ، أو كأنه يسير وفق استراتيجيات جديدة، إذ باتت الأمور تسير على نحو دراماتيكي جلي بحكم دخول طرف محدد ومعين إلى ساحة الصراع المباشر والذي  تمثل بتنظيم القاعدة كعدو مشترك للقوى الديمقراطية عموما وللولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص ، ومع متغيرات معادلة الصراع في الشرق الأوسط  تزامناً مع المتغير الدولي على الصعيد السياسي ،  دخلت كوردستان بجغرافيتها البشرية والسياسية بأجزائها الأربعة كطرف أساسي في هذه المعادلة وأخذت حيزاً أكبر بعد حرب تحرير العراق ، وازداد أهمية الشأن الكوردي في إعادة ترتيب هيكلة الشرق الأوسط على أساس الجغرافيا السياسية الجديدة  كمشروع غربي وأمريكي ،  خاصة بعد المعارك الطويلة والشاقة  للولايات المتحدة الأمريكية مع الارهاب  في العراق ، ومن موقع الأهمية هذه كان لابد من البحث عن الحق الكوردي في هذا الواقع المتغير والمضطرب بهدف استثمار راهنية الحالة الانقلابية  في المنطقة لصالح الشعب الكوردي وقضيته الوطنية والقومية  ، وعليه  تسارعت القوى السياسية الكوردية بتجاوز حالتها الحزبية على الصعيد النظري البرامجي بشكل مباشر عن طريق محافلها الحزبية  الرسمية أو بشكل غير مباشر عن طريق التوافق والاتفاق ضمن الأطر السياسية المشكلة مثل المجلس الوطني الكوردي أو الهيئة الكوردية العليا ،  أو الإتحاد السياسي الديمقراطي  ، وعلى الرغم من بعض التباينات الشكلية أو العلنية اقتنعت الحركة بمعظم أطرافها إن لم نقل بجميع أطرافها على أن اللحظة التاريخية مؤاتية لطرح القضية الكوردية في سوريا  بمشروعيتها التاريخية  ، وتم الاتفاق على أنها قضية شعب أصيل يعيش على أرضه التاريخية وتم إدخال هذا المفهوم وبتلك الصيغة  على الخطاب السياسي الكوردي أثناء الحوارات مع قوى المعارضة السورية كما تم الاتفاق  في البرنامج السياسي للمجلس الوطني الكوردي والهيئة الكوردية العليا  ، بما هو محتواه أن الحل الأمثل لحق تقرير المصير يكمن في إنشاء دولة اتحاديه بنظام فيدرالي لامركزي يمارس فيها الشعب الكوردي حقه الكامل في المشاركة الفعلية في حكم وإدارة الدولة كونه  كشـــعب مع جزء من وطنه ( الجزء الغربي لكوردستان الملحق بالدولة السورية ) يشكلان معاً جزءاً من كيان الدولة السورية ،  وذلك بما يحافظ على وحدة الدولة السورية ككيان جغرافي وسياسي ،  ومجمل هذا الفهم  لحق تقرير المصير لا يخرج عن القرارات والعهود والمواثيق الدولية بشأن الشعوب الأصلية التي تعيش على أرضها التاريخية  والتي لم تشكل دولها الخاصة بها ، وفي الجانب الآخر هناك من لم يفهم حتى الآن قوة مشروعية الشعب الأصلي في حكم نفسه بنفسه وإدارة موارده وملكيتها ، ولهذا نرى أن البعض يقوم بالخلط بين اتحادية الدولة وتفتتها وكأن المركزية هي قوة الدولة وتماسكها ، هذا الفهم مشروع بحكم تراكمات الذهنية التقليدية التي عايشت الدولة المركزية وأنظمة حكمها  وكأن المركز أو الدولة بالمفهوم التقليدي هي  الوريثة الشرعية والوحيدة  للموارد والحكم والإدارة ،  فهو لم يستوعب بعد بأن أقوى الدول اقتصادا ومركزية في العالم هي الدول الاتحادية أو اللامركزية مثل ألمانيا الاتحادية أو الولايات المتحدة الأمريكية فمعيار  الوحدة الفعلية  للدولة  الوطنية المؤسساتية  ، ليس في المركزية أو اللامركزية بل هو بوجودها ككيان  سيادي مشروع ومصان  ومعترف به من قبل المؤسسات الدولية الرسمية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة ، وقوة الدولة  اللامركزية هي من قوة أطرافها أو أقاليمها كما  يقابلها في الدولــة الوطنية  المــركزية  قوة الدولة يكـــمن في وحدتها الوطـــنية ( الوحدة بين أبناء شعبها من مختلف المكونات …) .
لكن بمنأى من هذه المفاهيم وبالتوازي معها كانت هناك محاولات لتقزيم القضية الكوردية وتحجيمها بل وتحريف مسارات المشروعية التاريخية لهذه القضية العادلة ، وذلك من خلال مشروع الادارة الذاتية الذي يلف حوله الكثير من الغموض والشكوك ، فهذا المشروع في جوهره لا يختلف عن الادارة المحلية القائمة في المحافظات السورية  الآن بل هو أقل منه مستوً من الناحية المؤسساتية والمهنية ، وفي الجانب السياسي فهذا المشروع ليس له أي محتوى سياسي  على الإطلاق ولا يعبر عن أي طموح وطني كوردي ويبتعد كثيراً عن إرادة الشـــــعوب الأصلية التي تعيش على أرضها التاريخية  وحقها في أوطانها التاريخية ، بل ينسجم المشروع تماماً مع الفهم القائم على حقوق الأقليات أو الجاليات الطارئة على بلاد أخرى ، كما أن المشــــروع ينســـجم مع فهم حزب العمال الكوردســتاني  في تســعينيات القرن الماضــــي بخصـــوص التعامل مع هذا الجزء إذ لا يقر بوجـــــود قضية كوردية  بذاتها في ســوريا ، وبالعودة إلى بعض الكتابات والوثائق ذات العلاقة بالكورد الســـــوريين نتذكر الحملة التي حملت عنوان:  فليبدأ موســـم الهجرة إلى الشمال …! وتم التأكيد على : ( …أنه لا توجد منطقة كوردية باسم كوردستان سوريا ، و الكورد السوريون مجرد مهاجرون من الشمال  …  ) ومشروع الادارة الذاتية  في جوهره ما هو إلا انعكاس مباشر لهذه المفاهيم  وامتداداً طبيعياً  لسياسة ومواقف حزب العمال الكوردســــتاني من القضية الكوردية في سوريا ، وفي محاولات غير موفقة لإخفاء سلبية  هذا المشروع تجاه القضية الكوردية  وإضفاء بعض الغموض والضبابية عليه ، ألحق باسم المشروع  مواصفات لفظية  ذات طابع تجميلي ليست لها أية علاقة بالبعد أو الوظيفة القانونية للمشروع  مثل الإدارة الذاتية الحرة أو الادارة الذاتية الديمقراطية الحرة…..الخ وعلى هذا الأساس جاءت  كل التسميات التي أطلقت على المنظمات  الكوردية السورية المنبثقة عن امتداد سياسات وأيديولوجيا  حزب العمال  مجردةً من الوصف بالانتماء الوطني الكوردي ، بل هي تحمل اسم الشعب بديلاً عن التوصيف الكوردي أو الكوردستاني ، على الرغم من الإقرار اللفظي بتسمية هذا الجزء بغربي كوردستان وذلك للتعويض عن التوصيف بالانتماء السياسي قومياً أو وطنياً ، في محاولة للهروب إلى الأمام ، وبالحديث عن مضمون الادارة الذاتية في الجانب الجغرافي التاريخي والسياسي  نرى أن هذا المضمون لا يتعدى حدود إدارية رسمتها  الجغرافيا الطبيعية مثل الوديان أو الأنهر أو تلال أو ما شابه  وهنا يمكن أن تكون للضرورات المهنية أو المؤسساتية دوراً كبيراً في  رسم هذه الحدود وأيضاً التجمعات البشرية والكتل السكانية وكثافتها ، باختصار هي حدود إدارية (محافظات ، مناطق ، نواحي ، بلدات ، قرى ….) رسمت على نحو ما  يمكن تخديم مختلف أنحاء المنطقة الادارية بالشكل الأسهل أي أن هذه الحدود ذات طابع خدمي ليس لها أية علاقة لا بالجغرافيا السياسية  ولا بالتاريخ  ولا بحق الشعوب الأصلية على أرضها  وفي أوطانها التاريخية في حكم نفسها وإدارة مواردها الطبيعية ، والحزب السياسي مهما علا شأنه  أو ارتفعت قامته فهو غير مخول في أن  يحول القضية الوطنية إلى حدود إدارية مرسومة لأهداف خدمية وظيفية  و الانطلاقة منها كأمر واقع بعيداً عن الحدود الوطنية التاريخية للشعب  .

*عضو اللجنة السياسية لحزب يكيتي الكردي في سوريا

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…