14-6-2013
وفيما بعد وعلى أثر رحيل الفرنسيين، دخلت سوريا في مرحلة سياسية جديدة اتسمت بحدوث انقلابات عسكرية متتالية داهمت الديار وعكرت صفوة الهدوء النسبي الذي كان سائدا في نهاية الأربعينات من القرن العشرين، وقد رافقها فرض حالات طوارئ وأحكام عرفية كان يلجأ إليها ويشرعنها الحكام العسكر لفرض هيبة السلطة على المدنيين بالقوة، مما أدى في معظم الأحيان إلى تغييب السياسية وعسكرة المجتمع وإلغاء دور القضاء المستقل وتشكيل المحاكم الإستثنائة وتأميم المعامل والمصانع الخاصة ونزع الملكيات الزراعية من ملاكيها بموجب قانون الإصلاح الزراعي وحل الأحزاب وضرب مرتكزات مؤسسات المجتمع المدني وإلغاء الحياة البرلمانية وإغلاق الجمعيات الثقافية والخيرية وباقي المؤسسات الديمقراطية التي كانت موجودة في عهد الإنتداب الفرنسي.
أما في المناطق الكوردية فقد برزت مظاهر تمييزية كانت تبتكرها دوائر شوفينية حاكمة وأخرى مصفقة لها، وجرت الأمور بشكل سلطوي صوب محاولة الحكومات المتعاقبة لصهر الكورد في بطون الآخرين، وحلت مسلكية الاضطهاد القومي والتمييز العنصري محل سياسة حسن الجوار والتعايش المشترك اللتان كانتا سائدتين بين شعبينا الجارين (الكوردي والعربي) اللذان كانت تربطهما علاقات ألفة متبادلة.
إنّ تلك السياسة الشوفينية أدت فيما أدت إلى ازدياد الضغوط على المثقفين الكورد وتوزعوا فرادى على جمعيات ثقافية ونوادي مدنية وقوى سياسية سورية عديدة، لكن الحزب الشيوعي السوري الذي كان يلقى رواجا في بداية الخمسينات من القرن الماضي (أي قبل تأسيس البارتي) لرفعه لواء الأممية والاشتراكية ونصرة قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والشعوب، قد حظي باستقطابه للنصيب الأكبر من النشطاء الكورد المهتمين بالشأن السياسي آنذاك، ولم يتردد الكورد بإظهار تأييدهم والانتساب إلى الحزب الشيوعي أفواجا تلو الأخرى، وانتشرت الخلايا الشيوعية وسط مجتمعنا وبرزت أسماء عديدة من الكوادر الناشطة في مناطقنا الكوردية يوما بعد آخر، مما أدى إلى جلب أنظار قيادة الحزب الشيوعي التي أصدرت من دمشق مع بداية الخمسينات قرارا يقضي بتشكيل تنظيمات شيوعية تنشط في كل من منطقتي الجزيرة وعفرين الكورديتين، شريطة أن تتبع تلك المنظمات للمركز وأن لا تخرج عن أوامرها.
في تلك السنوات كان المرحوم عثمان صبري يقيم في حي الأكراد بالعاصمة السورية دمشق، وكان موجوعا بمآسي بني جلدته ويتوق إلى تأسيس حزب قومي كوردي لمناهضة الاستبداد، ومن أجل تحقيق طموحه كان يستدعي بعض الأوساط النخبوية من أبناء وبنات الكورد ويجمعهم حول نفسه بشكل سري ويناشدهم ويزرع فيهم الروح القومية والأفكار النضالية ويطلب منهم أن يحبوا قوميتهم ويتقنوا لغتهم الأم، وكان يجري اتصالاته بشكل دائم مع كافة السياسيين والمثقفين والطلبة الكورد بغض النظر عن مواقفهم وأينما كانت مواقعهم، وفي عام (1938) أسس العم عثمان جمعية للشباب (يكيتيا خورتان) في دمشق، ويُقال بأنَّ عدد أعضائها بلغ المئات من الشباب الكورد المؤمنين بقضيتهم القومية.
وكان العم عثمان يزور بين الحين والآخر بعض أصدقائه في مناطق الجزيرة وعفرين وكوباني، ففي الجزيرة كان ينسق مع الشيخ محمد عيسى وحمزة نويران وغيرهما من الشخصيات الوطنية المخلصة، وفي مدينة حلب كان يلتقي بالسيدة روشن بدرخان رحمها الله، وفي عفرين كان يحل ضيفا على الأستاذ رشيد حمو والمرحوم محمد علي خوجة، وكان الرجال الثلاثة يتناقشون في الشؤون السياسية ويبحثون مع بعضهم حول ضرورات إيجاد مخرج للقضية الكوردية.
وفي الحين ذاته كان الشيوعيون الكورد ينشطون في مناطقنا، وقد برز من بينهم عدد من خيرة الكوادر، وبما أنّ الحزب الشيوعي بقي صامتا ولم يتخذ موقفا مناصرا لقضيتنا لا بل إنه لم يكترث بمطالب شعبنا ولم يولي أية أهمية لمقترحات رفاقه من غير العرب، فلم يكن أمام كوادره الكورد أي سبيل سوى التعبير عن امتعاضهم وإعلان انسحابهم من الشيوعي والبحث عن بديل تنظيمي يلبي الحقوق القومية المشروعة لشعبنا، وقد حدثت هذه الانسحابات الجماعية في عام 1954م.
ولهذه الغاية بادر الأستاذ رشيد حمو بمعية بعض من رفاقه بالاتصال مع كافة الشيوعيين الكورد في عفرين والجزيرة وكوباني ودمشق وحاول أن يلم شملهم، ومن ثم حاول الالتقاء بالمرحوم عثمان صبري الذي كان قد أقنعه فيما مضى بضرورة التزام الأجيال الكوردية بالفكر القومي التحرري، وجرت عدة لقاءات بين الطرفين وتوصلا إلى اتفاق مبدئي يوصي بالنضال من أجل استكمال مهام البدء بمشروع تأسيس أول تنظيم قومي كوردي في سوريا.
ومن جانبه بادر العم عثمان إلى استدعاء كل من (المرحوم حمزة نويران والشيخ محمد عيسى وغيرهم) من مناطق الجزيرة والتقى معهم وأخبرهم بأن الشيوعيين الكورد في عفرين قد تركوا صفوف الحزب الشيوعي وأنه بصدد الاتفاق معهم ليبادروا بشكل جدي من أجل تأسيس ((بارتي ديمقراطي كوردستان سوريا))، وقد كان رد رفاق الجزيرة إيجابياً وأبدوا موافقتهم على أفكار العم عثمان ووعدوه ببذل ما بوسعهم لإنجاح الفكرة عبر نشرها في ريف الجزيرة الذي كان ولا يزال يتعرض لأبشع أشكال السياسات العنصرية على الإطلاق، وبالمناسبة فقد كان المناضل القيادي المرحوم عبدالرحمن عثمان من عفرين يصف منطقة الجزيرة بالأرض المحروقة سياسيا وأمنيا!؟.
وفي (14 حزيران 1957) قام المرحوم عثمان صبري بصفته الاعتبارية كصاحب امتياز لهذه المبادرة وكمؤسس للتنظيم بدعوة رفاقه السبعة (نور الدين ظاظا ومحمد علي خوجة وشوكت حنان وحمزة نويران وشيخ محمد عيسى ورشيد حمو وخليل محمد عبدالله وعبدالحميد درويش) إلى الإجتماع الرسمي الأول، ويُقال بأنهم عقدوا اجتماعا تأسيسيا مصغرا وقد غاب المرحوم شيخ محمد عيسى عن الإجتماع بعذر شرعي وبسبب سفره خارج البلد، وجرت مناقشة النظام الداخلي والمنهاج السياسي وبعض الثوابت والتوجهات السياسية العامة للبارتي، وتم وضع خطة ميدانية لكيفية نشر أفكار الحزب الجديد، وفي الختام قام الإجتماع بتكليف نفسه للقيام بمهام قيادة البارتي والعم عثمان صبري بمهمة السكرتير العام، وخلص ذلك الإجتماع المبارك إلى إصدار البيان الأول لتأسيس (البارتي الديموقراطي الكوردستاني في سوريا).
ومهما تعدَّدت الآراء واختلفت حول مكان وزمان تأسيس البارتي وأسماء المؤسسين، فإنّ البارتي قد نشأ وتأسس واتسعت دائرة نفوذه، ورغم أنّ هنالك ثمة آراء عديدة تختلف فيما بينها، ورغم أنّ هذا الاختلاف في الرأي لن يقدم أو يؤخر في أي شيء من المعادلة، لأنّ تلك النقلة النوعية قد دخلت طورها العملي وصار البارتي حزبا ارتبط إسمه بالقضية الكوردية واستطاع أن يقود مسيرة شعبنا منذ يوم التأسيس وإلى يومنا هذا، إلا أنّ أي اختلاف بين وجهات النظر يبقى نافعا وفيه فائدة إذا بقي في إطار التعددية لأنه يجعل المرء يحاول ويبذل ما بوسعه للعثور على الحقيقة.
وليس من قبيل نبش الماضي وإنما من باب إعطاء الموضوع حقه لكي لا يضيع أي حق لأي شخص من الرعيل الأول المؤسس للبارتي ومن لفيف المناضلين الذين انضموا لمسيرة البارتي، فإننا أجرينا ثمة متابعة حيادية عبر الاستماع لآراء الكثيرين من رفاقنا القدامى الذين كانوا يحكون لنا أدق تفاصيل يومياتهم النضالية وحياتهم الحزبية التي كانت مليئة بروح التضحية والإخلاص للقضية.
ولدى إجراء مقارنة لمختلف الآراء التي سمعناها من أفواه أكثرية رفاقنا القدامى الذين عاصروا حقبة نشوء البارتي، نعطي الحق لأنفسنا ونبدي رأينا في هذه المسألة باعتبارنا الطرف المعني بدرجة أكثر من غيرنا، ونرجو أن لا ينزعج أحدا من كلمة الفصل التي نريد أن نقولها دفاعا عن الحق وإزهاقا للباطل، وبناء عليه وبهذا الصدد الإختلافي الطبيعي الذي يمكننا إدراجه في خانة النسيان لأن الذاكرة التي قد تخون بعض أصحابها بسبب تقدمهم في العمر!، فإننا نقف إلى جانب رأي الأكثرية كالمرحوم محمد ملا أحمد من الجزيرة ورأي االمرحوم رشيد حمو من عفرين ورأي المرحوم شوكت حنان ورأي الدكتور خليل عبدالله ورأي المرحومة روشن بدرخان ورأي المرحوم الدكتور نوري ديرسمي ورأي المرحوم حسن ابراهيم وغيرهم من الذين دافعوا عن المؤسسين الثمانية بمنتهى الموضوعية والأمانة التاريخية، ونرى بأنّ ثمة أقلية مع احترامنا لرأيها المخالف قد جانبت الحقيقة ونعتقد بأن ذاكرتهم قد خانتهم عندما أخطأوا بحق باقي رفاق دربهم من مؤسسيي البارتي حينما كتبوا في كراريسهم بأنّ مؤسسي البارتي كانوا حسب رأيهم ثلاثة فقط (عثمان صبري وحمزة نويران وحميد درويش)!!، وهذا ما رفضه ونفاه كل الشهود الذين قرأوا تلك الكراريس، وما لا يقبله العقل والمنطق إذ لا يُعقل أن تنحصر أعمال ومهام حقبة التأسيس على ثلاثة أشخاص فقط!؟، بينما يؤكد الجميع بأنّ المؤسسون كانوا ثمانية وأن المرحوم الدكتور نورالدين ظاظا كان له دور بارز في التأسيس ورئاسة الحزب.
في كل الأحوال فقد جاء التأسيس حينذاك ردا على المظالم العنصرية التي مارستها الدوائر الشوفينية الحاكمة ضد شعبنا الكوردي، وقد كان للثورات والانتفاضات الكوردية التي اندلعت في تلك الفترة كجمهورية كوردستان التي أعلنها الشهيد قاضي محمد وكتأسيس الحزب الديموقراطي الكوردستاني العراق من قبل الزعيم الوطني الخالد مصطفى بارزاني، وما رافق ذلك من احتقانات وأفكار تحررية شجعت الكورد على ضرورة النهوض بقضيتهم، تأثيرا كبيرا على نشر الوعي القومي في ساحتنا، وكان لثورة أيلول المجيدة بقيادة البارزاني الخالد، أثرا ايجابيا بالغا في مسعى النهوض بالفكر القومي التحرري وبالبارتي وتقويته وتوسيع رقعة نفوذه وتعاظم دوره السياسي ومكانته الجماهيرية التي لا يزال يحظى بها دون غيره من أحزاب حركتنا التي نكن لأطرافها فائق الاحترام والتقدير.
ومنذ يوم التأسيس إرتبط إسم البارتي باسم البارزاني الخالد الذي كان وسيبقى رمزاً وطنياً كوردستانياً أنار وينير دروب النضال للأجيال الكوردية هنا وهناك، فتشكلت ثلاثية تاريخية مترابطة هي (البارتي ـ القضية ـ البارزاني)، وقد تجمهر الكورد في كل مكان حول هذه الثلاثية المتينة التي بقيت وينبغي أن تبقى متلازمة لا تنفصم عن بعضها مهما حاولت الجهات المعادية فكفكة شيفرتها وإعاقة مسارها، ولكي يحافظ هذا المثلث على وحدته وقوته يتوجب علينا نحن الذين نعتبر أنفسنا تلاميذ مخلصين في مدرستها أن نبحث بجدية عن الأسباب التي أدت إلى إحداث بعض مكامن الضعف وأوجه الخلل في صفوفه، والتي أدت إلى إضعافه في ساحتنا المحتاجة إلى بارتي قوي يقود نضالها في سباق حقيقي مع الزمن.
وعلى مدى عام تلا يوم التأسيس، أدى المؤسسون الثمانية مهام قيادة البارتي حسب إمكانياتهم وبذلوا كافة طاقاتهم رغم تواضعها، وناضل كل واحد منهم بحسب قدراتهم الذاتية وموقعه في صفوف الجماهير الكوردية، وكان القياديون يتنقلون من منطقة كوردية إلى أخرى بمنتهى الحيطة الحذر وبوسائل نقل وإعلام بدائية، ورغم ضعف الإمكانيات إلا أنه ذاع صيت البارتي واتسعت دائرة قيادته وتنظيماته في كافة المناطق الكوردية وفي حلب ودمشق وفي لبنان وأوربا.
وفي المجال السياسي أصدرت قيادة البارتي بيانات عديدة متلاحقة واتخذت خيارات سياسية مشرِّفة تجاه مختلف الأحداث والمواقف التي كانت تعترض السبيل، وفي أواخر شهر كانون الأول 1957، بادرت القيادة بتقديم مذكرة إلى مؤتمر تضامن شعوب آسيا وأفريقيا المنعقد في القاهرة، وقد تضمنت المذكرة شرحاً عن أوضاع الكورد في أجزاء كوردستان الأربعة، وطالبت المؤتمر بضرورة تأييد نضال الكورد وحقهم في الحرية والاستقلال.
وفي عام 1958م أي بعد مرور حوالي عام على التأسيس، قام البارتي بعقد مؤتمر مصغر أو بالأحرى اجتماع موسع لمناقشة أوضاع الحزب وللبحث عن كيفيات تطويره، وانتهى المؤتمر بنجاح وجرى انتخاب لجنة مركزية وتم اختيار المرحوم الدكتور نورالدين ظاظا لمنصب السكرتير العام للحزب نظرا لجدارته وإمكانياته الفائقة وتاريخه النضالي المشرِّف ومكانته المحترمة بين كافة الأعضاء والمؤيدين ووسط أوساط المثقفين الكورد آنذاك، وخرج المؤتمرون بمعنويات نضالية عالية وبإصرار وصلابة على مواصلة النضال تحت شعار (تحرير وتوحيد كوردستان) والإلتزام بنهج البارزاني الخالد.
ورغم تلك الظروف الحالكة أصدرت اللجنة المركزية للبارتي بشكل سري جريدة (صوت الأكراد ـ دنكي كورد) التي كانت لسان حال البارتي وكانت تعبر عن آمال وطموحات ومآسي شعبنا وتنادي بتحقيق المساواة القومية والعدالة الاجتماعية والاعتراف بالحقوق القومية المشروعة للكورد، وكانت هيئة التحرير مؤلفة في بداية التأسيس من المرحوم عثمان صبري والمرحوم محمد علي خوجة والمرحوم رشيد حمو وكوادر آخرين من دون المرتبة القيادية، ثم انضم إليها الأستاذ حميد درويش وترأس تحريرها سكرتير الحزب الدكتور نورالدين ظاظا الذي كان يتقن الكتابة باللغة العربية أكثر من باقي رفاقه، وقد استمرت دنكي كورد بالصدور رغم الصعوبات التي اعترضت سبيلها، وقد توقفت لفترة قصيرة في عام 1960 بسبب تكثيف الضغط السلطوي عليها ومصادرة بعض الآلات الكاتبة والناسخة والطابعة اليدوية، ورغم الانشقاقات المتتالية التي حصلت فيما بعد إلا أن الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي) احتفظ بحقه كصاحب امتياز لهذه الجريدة الدورية، وهو لا يزال يواصل إصدارها بشكل ودوري وبطباعة متطورة.
ولعلّ من ابرز نشاطات البارتي في تلك المرحلة، هو اتخاذ قرار إحياء إشعال شعلة عيد نوروز في كافة المناطق الكوردية في ليلة 21 آذار 1960، واعتقل بسبب ذلك مئات المواطنين وأعضاء وأنصار الحزب، كما تعرض أعضاء قياديون لحملات اعتقال وملاحقة مستمرة في عهدي الوحدة السورية المصرية والانفصال، إلا أنه رغم ذلك حافظ البارتي على تنظيماته وخلاياه بين أوساط المتعلمين والمثقفين والطلبة.
لكنّ رفع البارتي لشعار “تحرير وتوحيد كوردستان” في ذلك الحين، قد أدى إلى انزعاج السلطات السورية التي أشعلت الضوء الأحمر ورفعت البطاقة الحمراء في وجه قيادة البارتي وقواعده، وتم إعتقال أغلبية أعضاء القيادة وخيرة الكوادر، وصودرت إحدى آلات الطباعة التي كانت مخبأة بمنطقة عفرين في كهف يقع بمدينة معبطلي التي هي مسقط رأس المرحوم محمد علي خوجة، وحوكم البارتيون بتهمة “الانتساب إلى جمعية سرية تسعى إلى الانفصال وتشكيل دولة كوردية في شمال سوريا”، وصمد كافة الكوادر وأعضاء القيادة في وجه جلاديهم ورفضوا الخضوع لأوامر السلطات التي طلبت منهم أن يعلنوا حلّ تنظيمات البارتي، ولعلّ الشاهد الأكثر دلالة على صلابة مثلث (البارتي ـ القضية ـ البارزاني) هو أنّ أكثرية أعضاء القيادة بمعية مئات الكوادر النشطة تجرأت ورفضت الاستسلام لأمر الواقع وأصرت على مواصلة النضال مهما كلف الأمر ويشهد لفيف من رفاق عثمان صبري بأنه أبدى موقفا بطوليا حينما مسك بقلمه في السجن ورسم خارطة كوردستان الكبرى أمام أعين عدد من المحققين والسجانين.
وبعد انقضاء حوالي سنتين اثنتين من استقرار الحكم في سوريا لصالح سلطة الوحدة السورية المصرية برئاسة المرحوم جمال عبد الناصر الذي كان من الأفضل له أن لا يوسع دائرة خصومه في الداخل السوري لكنّ اندفاعه الثوري ورغبته في رحلة الوحدة (المصرية السورية) من خلال فرض هيبة حكمه على البلاد والعباد، ساقه للاستسلام لنشوة الانتصار فارتد على أطياف سياسية واجتماعية سورية عديدة عبر الضغط على بعض الأحزاب التي وصفها بالمناوئة للوحدة والمتعاملة مع الخارج كالحزب الشيوعي والإخوان المسلمين والحزب القومي السوري وبارتي ديموقراطي كوردستان الذي وصفه الوحدويون العرب بالانفصالية والتبعية للزعيم الكوردي الخالد مصطفى بارزاني الذي كان قد عاد لتوه من الإتحاد السوفييتي بمعية مئات المناضلين من صحبه الذين أمضوا معه رحلة نفي إجبارية دامت 13 سنة في الغربة إلى العراق الذي شهد حينها ثورة تموز 1958 التي انقلبت على الملك وأنهت النظام الملكي بقيادة الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم الذي كان قد دعا البارزاني الخالد للتفاوض معه وحل القضية الكوردية في كوردستان العراق، لكنّ الحكومة العراقية ما لبثت أن شنَّت حربا ظالمة ضد إقليم كوردستان ونكصت بوعوده التي أبرمها مع الجانب الكوردي الذي وجد نفسه مضطرا لاختيار اللجوء إلى المواجهة العسكرية كوسيلة مشروعة للدفاع عن النفس فاندلعت ثورة أيلول المجيدة التي يعود لها ولقائدها الفضل الأكبر في نشر الوعي القومي الكوردي في كافة أجزاء كوردستان.
أمام هكذا موجة لا بل موجات من الضغوط المتزايدة على الجانب الكوردي في كوردستان سوريا التي كانت تئنُّ تحت حكم نظام عروبي، أصيب البارتي بنكسات متتالية لكنه لم يُصَب بخيبة الأمل ولم يكن أمامه سوى الصمود في وجه الدوائر الشوفينية التي يبدو أنّ شغلها الشاغل كان ممارسة التمييز القومي وملاحقة النشطاء الكورد ووضع الخطط العنصرية لتعريب المجتمع الكوردي وفق منطق فوقي بعيد كل البعد عن الثقافة التوافقية التي كانت سائدة في سوريا قبل تلك الفترة التي باتت فيها اللغة الكوردية ممنوعة من الكلام والتداول!!؟، ومضت حكومة الوحدة التي يبدو أنها كانت غريبة بطباعها السلطوية عن طبائع المجتمع السوري في رسم مخططاتها والسير باتجاه تشكيل مزيد من الحملات الأمنية على قيادة البارتي وكوادره، وقد أدى استمرار العسف السلطوي إلى خلق حالة من التخوف وقدر من التردد لدى بعض أعضاء قيادة البارتي الذين اقترحوا اعتماد مواقف مرنة وأشكال نضالية سرية وشعارات وقائية، وقد أدى ذلك إلى اتخاذ قرار اضطراري يقضي بتأجيل رفع شعار تحرير وتوحيد كوردستان وإلغاء عبارة الكوردستاني من إسم الحزب الذي تغير فيما بعد إلى (الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا ـ البارتي)، وقد ألحق ذلك القرار انتكاسة كبيرة بمشروع البارتي وبجماهيره وبكافة مؤسسيه وخاصة بالمناضل عثمان صبري الذي أبدى انزعاجه الكبير لكنه أصرّ على مواصلة النضال تحت أي إسم كان.
ومن أجل توسيع دائرة التنظيم توجهت قيادة البارتي إلى الجماهير رغم جدار الرعب الذي كان قابعا فوق رقاب أهلنا، وأرادت إيجاد قاعدة شعبية وتنظيمات سرية وسلمية وسطها، وكانت أولى خطواتها باتجاه جمعية وحدة الشباب الديموقراطيين الكورد، وجرت مباحثات في كانون الثاني من عام 1958، انتهت بانضمامها للبارتي في شباط 1958، وأصبح للبارتي قاعدة عريضة تشمل مناطق واسعة من الجزيرة وكوباني وعفرين، وكانت هذه الخطوة مهمة جداً، إذ أدت إلى انتشار اسم البارتي بين الجماهير التي أصبحت تتداول هذا الاسم فيما بينها، ثم توجهت قيادة البارتي إلى تكتل آزادي، المؤلف أساساً من مجموعة من العناصر التي تركت الحزب الشيوعي وحاورهم الرفاق وانضم قسم منهم إلى البارتي وكان المرحوم الشاعر جيكرخوين واحدا من القياديين البارزين المنضمين بينما رفض القسم الآخر، ثم لجأت قيادة البارتي إلى البورجوازية الكوردية التي كانت تتسلم قيادة جمعية خويبون القديمة، وحاورتهم في أمر انضمامهم، ومن جانبه كان السيد جلال طلباني قد ذهب إلى الاتحاد السوفييتي والتقى بالملا الخالد مصطفى بارزاني، واعلمه بنشوء بارتي ديموقراطي كردستان سوريا، وجاء رده الذي أبدى فيه سروره بتأسيس البارتي ولكنه طالب بتلاقي وتوحيد الصفوف وجمع شمل كافة فعاليات المجتمع الكوردي في إطار البارتي، أي أنه أراد توحيد كافة الفعاليات الكوردية في سوريا، ولذلك حدث لقاء في حلب في أواخر (1958) وحضره من جانب البارتي (الدكتور نورالدين ظاظا ورشيد حمو ومحمد علي خوجه وخليل محمد عبدالله) ومن الجانب الآخر (السيد قدري بك جميل باشا وأكرم بك جميل باشا وجميل حاجو وعارف عباس)، وقد اتفق الطرفان على أمور كثيرة، لكن تلك المساعي الوحدوية الحميدة لم تسر بسهولة فقد دبت الخلافات فيما بعد ولم يتم التوصل إلى صيغة مشتركة!؟، وبعد تلك الفترة تعرّضت قيادة البارتي إلى ضغوط أمنية أكثر بسبب الأوضاع الداحلية المتحولة باتجاه ممارسة السلطة للمزيد من القمع والتشديد، حيث أصدرت السلطات السورية قرارا مجحفا بحل الأحزاب السياسية والضغط على البارتي واعتقال المرحوم حمزة نويران والمرحوم المحامي شوكت حنان ودعوة المرحوم الأستاذ رشيد حمو للتحقيق وفرض الإقامة الجبرية عليه في بيته في حلب في شهر نيسان (1959)، ومن ثم تلاحقت حملات إعتقال قيادة ونشطاء البارتي الذي دخل فيما بعد في دوامة من الملاحقات والاعتقالات والتحقيقات التي وصلت أوجها في عام 1960م، حيث أصبحت الحالة الأمنية لا تُطاق وصارت اللقاءات والاجتماعات الحزبية شبه مستحيلة في ظل حملات الملاحقة المكثفة، مما أدى إلى تعطيل الحياة الحزبية بشكل جزئي ونشبت بعض الخلافات الداخلية التي شكلتْ عاملا إضافيا في تعثر العمل التنظيمي وخسارة البارتي لبعض مؤسسيه الذين أصابهم قدر من اليأس جراء رداءة الحال وضعف الحيلة، وجرى تبادل الاتهامات الظالمة بين بعض الرفاق القياديين بما فيهم سكرتير الحزب الذي خسره حزبنا بعد أن غادر البلد ولجأ إلى أوربا خوفا من بطش النظام وتحاشيا من ظلم ذوي القربى أو بالأحرى من اتهامات بعض رفاق دربه المنافسين له، وأيضا خسارة الدكتور خليل محمد عبدالله الذي ترك العمل الحزبي وسافر إلى الإتحاد السوفييتي بقصد متابعة دراسته الجامعية وبعد تخرجه عمل في إذاعة صوت يريفان، وأيضا خسارة المرحوم محمد علي خوجة الذي توفي قهرا فيما بعد في إحدى مستشفيات دمشق في ظروف معيشية صعبة للغاية.
وعلى أثر انقلاب حزب البعث على سلطة الانفصال في عام (1963) واستفراد طغمة من الضباط البعثيين بالحكم في سوريا، تفرّغ النظام البعثي للداخل السوري وبدأ بتصفية القوى والحركات الأخرى المناوئة له، وقد نال البارتي نصيبا أكبر من غيره في مجال الضغوط البعثية التي تراكمت عليه وأودت إلى قصم ظهره، لأن سلطة البعث اعتبرت بأنّ البارتي “حزبا قوميا معاديا للعروبوية” وبدأ بمحاربته عبر الضغوط الأمنية من جهة وعبر تطبيق سياسة فرق تسد من جهة أخرى، وقد استخدم النظام حينها مختلف أساليبه الإستخباراتية وقام بتوجيهها ضد الشعب الكوردي والبارتي لتشتيت صفوفه وقام بغزو المناطق الكوردية عبر تطبيق سياسة شوفينية وتدابير استثنائية كقانوم الإحصاء الإستثنائي لعم 1962، وبنشر مختلف أجنداته وأدواته (الأجهزة الأمنية وتنظيمات البعث والشيوعي والناصري وغير ذلك) التي عملت ولا يزال البعض منها يوالي النظام ويعمل بتحريض الشارع العربي بالضد من الشارع الكوردي والبارتي الذي إرتبط إسمه مصيرياً بالقضية القومية الكوردية، أي أنّ الحكومات الشوفينية استخدمت أسلوب الترهيب ضد الكورد والحركة الكوردية، حيث قام البعثيون والشيوعيون بتسخير إمكانيات هائلة لمنافسة البارتي عبر تقليص نفوذه بين جماهيره في مناطقنا الكوردية.
ومن جهة أخرى حاولت السلطة السورية شراء بعض الذمم الضعيفة وزرعت الفتنة في صفوف قيادة البارتي وشقت صفوفه واعتقلت بعضا من قياداته الشريفة على مراحل وبشكل متكرر ومقصود، وقامت السلطة بتحريض بعض العناصر الموالية لها لكي تعمل على ترويج ثقافة حزبية تدعو إلى الالتزام بالحمائمية السياسية واطلاق كلام حق يراد به باطل بحجة صون استقلالية البارتي ومحاولة فك إرتباطه بالقيادة البارزانية وذلك لقطع دابر علاقاته الأخوية مع باقي أجزاء كوردستان وخاصة مع بارتي ديموقراطي كوردستان العراق الذي يعتبر عمقاً أخوياً لابد منه لكوردستان سوريا، مما أدى بالإضافة إلى عوامل أخرى إلى شق صفوف قيادة البارتي وكوادره وأعضائه وجماهيره إلى جناحين حزبيين تنافسا فيما بينهما حتى بلغا أوج الخلافات التي أدت إلى حصول انشقاق 1965 المشئوم الذي تم لأسباب سياسية تتعلق بالموقف من القضية الكوردية (أهي قضية شعب وأرض أم مشكلة مواطنين أكراد؟) وأيضا لأسباب تنظيمية وأخرى مزاجية وبتحريض من بعض الدوائر الشوفينية ولغايات شخصية بشهادة كل الذين عاصروا تلك المرحلة، وقد كان لذلك الانشقاق أثر بالغ في تلكؤ مسيرة البارتي على مدى العقود الزمنية الماضية، حيث انقسم فيها إلى جناحين أحدهما “يميني” انشطر فيما بعد والآخر “يساري” تشتت إلى مجموعات عديدة مع الأسف الشديد، وما بين هذين الجناحين الذين قاما بتدمير التنظيم واقتسامه فيما بينهما، برز تيار حيادي أو بمعنى أدق أكثرية حزبية أعلنت عن حياديتها وبراءتها من الانشقاق وانسحبت من العمل التنظيمي وأصرت على أن يبقى البارتي جسدا وروحا في خندق البارتي الشقيق وأن يسير على هدى نهج البارزاني الخالد وأن يبقى موحدا إلى حين انعقاد مؤتمر توحيدي من شأنه أن يعيد اللحمة بين رفاق الأمس ومخاصمي اليوم.
وبشكل لا يتصوره العقل…، ألحق هذا الانشقاق أفدح الأضرار بالبارتي طوال خمسة سنوات كادت أن تودي بالبارتي إلى الهاوية في حينه، إذ أدى ذلك إلى تمزيق جسده الذي تحول إلى مطية أو دمية بين تيارين متنازعين لم يرحما البارتي والقضية الكوردية ونهج الكوردايتي، وفي كل الأحوال فإنّ صفحات التاريخ شاهدة على أنّ قطبي هذا الانشقاق قد عملا ما بوسعهما لتشويه سمعة البارتي والبارزاني في أن واحد، ليس هذا فحسب لا بل حاولا وأد البارتي في مقبرة الآخرين، تحت شعارات “يسارية” براقة وأخرى “يمينية” تدعو إلى العقلانية التي كان يصفها الشارع الكوردي بالمساوماتية!!، وقد أدى ذلك الإحتدام إلى تجميد تنظيمات البارتي بشكل كامل واستمر الوضع على ذلك الحال الإنشقاقي حتى انتصار ثورة أيلول ونجاح الحزب الديموقراطي الكوردستاني في التوصل إلى توقيع اتفاقية الحكم الذاتي في 11 ـ أذار عام 1970م، حينها بادر قائدنا البارزاني الراحل مرة أخرى إلى إعادة الاعتبار لحزبنا حيث دعا إلى عقد مؤتمر توحيدي لكافة أطرافه في خريف عام 1970، وقد كانت تلك محطة انطلاق جديدة لحزبنا البارتي الذي ناضل ولا يزال يواصل نضاله ويشق طريقه الوعرة حتى اليوم رغم مختلف العراقيل والمعوقات والإستهدافات.