الهيئة الكردية العليا..عام من الصراع و الاستنزاف

فيصل سفوك

يتابع الكورد ما يجرى من تطورات متسارعة في الأزمة السياسية الكوردية بألم وحذر وترقّب,نتيجة التصدع والانشقاق،إن لم نقل التناحر الذي بلغ أعلى درجاته,وصلت إلى تمزيق أواصر الأخوة بين أبناء الشعب الواحد,ألقت بظلالها على المشهد الكوردي وبات لها انعكاسات خطيرة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية..في مجتمعنا الكوردي,والتي يتطلب منا الوقوف عند أسبابها والبحث عن الأدوات المناسبة من أجل معالجة سريعة لحالة الشتات وإيقاف عوامل الصراع والخصومات المفتعلة تحت تأثير طمع التسلط وجشع الاستحواذ وأنانية الإقصاء .
لقد كان انبلاج فجر الربيع العربي كمنعطف تاريخي هام شهدته المنطقة العربية ابتداءً بتونس ثم مصر و ليبيا و اليمن و انتهاءً بسوريا والتي تحول فيها إلى صيف حامي طال أمده وفق المعايير والقواعد التي تحكم المصالح الإستراتيجية و الاقتصادية لبعض الدول ذات النفوذ و التأثير,وما أفرزته من تحديات و تعقيدات أثرت مباشرة على القضية الكوردية و بعديها الإقليمي والدولي وبالأخص على مدى أكثر من سنتين من اندلاع الثورة السورية لأهميتها التاريخية بما تحتويها من فرص استثنائية و مصيرية والتي من المفترض أنها وضعت القوى السياسية الكوردية أمام خطورة المرحلة واستحقاقاتها,فكان البحث عن آلية لبلورة خطاب كوردي موحد من أولويات ومتطلبات هذه المرحلة,ومن هذا المنطلق الذي أثار العديد من الشكوك فيما بعد,تم مناقشة هذه الآليات من قبل معظم أحزاب الحركة الكوردية وبما فيهم حزب الإتحاد الديمقراطي”pyd”من أجل بناء مظلة سياسية ترقى إلى مستوى التمثيل الكوردي,وتم عقد محادثات ماراثونية بين هذه القوى بمختلف أقطابها, إلا أنها أصدمت بمطلب ” pyd ” آنذاك حيث طالب بتمثيله بأكثر من تنظيم سياسي بحجة أن لديه مؤسسات تابعة للتنظيم تعمل على شكل هيئات حليفة, إلا أن هذه المحادثات فشلت في التوصل إلى حل لهذه المشكلة نتيجة رفض بعض التنظيمات السياسية لهذا المطلب .
 وبدأت هذه الأحزاب باستثناء ” pyd ” مع بعض الفعاليات والشخصيات الوطنية المستقلة بالعمل من أجل عقد مؤتمر وطني يشمل أغلب شرائح المجتمع الكوردي وفعلاً بتاريخ 26/10/2011 تم عقد المؤتمر الوطني الكوردي الأول والذي انبثق عنه المجلس الوطني الكوردي بكامل قوام المؤتمر, والذي استطاع في بدايات تأسيسه أن يلعب دوراً مهماً وبارزاً وحظي باهتمام كبير لدى معظم أقطاب المعارضة العربية وبدأ يحسب له حسابات كبيرة في الموازين السياسية وخاصة أنه يمثل أغلب فصائل الحركة الكوردية على اختلاف توجهاتهم والبعض من الشخصيات الوطنية وشرائح المجتمع الكوردي,حيث تبنى سياسة حكيمة في البداية من خلال العمل كإطار مؤسساتي مستند على آليات ديمقراطية وتبنيه الحراك الشبابي الكوردي باعتباره جزء من الثورة السورية السلمية .
وبعد تشكيل المجلس الكوردي وبعدما أيقن حزب الاتحاد الديمقراطي أنه لم يعد لديه أدنى فرصة للانضمام إليه وأن المجلس بدأ يخطف الأنظار من حوله , لجأ مباشرة للتحضير من أجل تشكيل مجلس الشعب لغرب كوردستان بمفرده ,وبعد أقل من شهرين عقد مؤتمره التأسيسي بتاريخ 16/12/2011 والذي بدأ بداية ضعيفة وبرؤى سياسية غير واضحة واتهم في الكثير من المواقف بالتنسيق مع النظام و تصديه لبعض المظاهرات المؤيدة للثورة السورية وحاول البروز في كثير من الحالات بهيبة المجلس الوطني الكوردي وقد تجلى ذلك من خلال إصراره لحضور العديد من المؤتمرات واللقاءات الإقليمية والدولية بوفود مشتركة .
ولكن سرعان ما تطورت الأحداث وبدأت الخطوط البيانية لكل من المجلسين بالاطراد العكسي فالمجلس الوطني الكوردي بدأ بالتراجع والتخبط في سياساته ولست بصدد البحث عن أسباب تعطيله وانحرافه عن الهدف الرئيسي المرسوم له فيما بعد لأني تطرقت إلى أهم هذه الأسباب في مقال سابق بعنوان “المجلس الوطني الكردي من إطار مؤسساتي فاعل إلى مجلس أحزاب معطل ” ,في حين أن مجلس الشعب لغربي كوردستان قام بإعادة ترتيب أولوياته وبدأ يتولى زمام الأمور على الأرض واستطاع الاستفادة من حالة التشرذم والانقسام الناجمة عن الخلافات بين المكونات الحزبية للمجلس الكوردي .


وما يهمنا في هذا الصدد التركيز والوقوف على الحالة المتأزمة والوضع الكوردي العام برمته والخلل والارتباك الذي أصاب أداء ودور الحركة السياسية الكوردية والتطرق إلى بعض أهم المحطات التي مرت بها ووصولها إلى هذه الحالة المريبة والمقلقة بكل المقاييس .
إن حالة الاحتقان السياسي والمزيد من الخلافات والاختلافات و السجالات الفكرية بين المجلسين والتي بدأت تطفو على السطح بالإضافة إلى الأزمة السورية التي بدأت تمر بمرحلة مفصلية شديدة التعقيد دون إيجاد أي بوادر لحلها في الأفق المنظور وتحولها إلى ساحة للصراعات الدولية والإقليمية ,…وانطلاقا ً من هذه المستجدات وإيمانا ًبضرورة التحرك الفوري لتوحيد صفوفها بعد فشلها في الوصول إلى أي حلول توافقية, قام الرئيس مسعود البارزاني بدعوة طرفي الصراع إلى الإقليم واستطاع بعد جهود مكثفة توقيع وثيقة تفاهم بينهما بتاريخ 11/6/2012 كخارطة طريق سميت بوثيقة هولير , وبعد شهر من توقيع هذه الوثيقة وتحديداً بتاريخ 10/7/2012 وبعد يومين من المباحثات وقع المجلسان على بنود اتفاقية هولير ومن أهمها “اعتماد وثيقة هولير وتفعيل بنودها وتشكيل هيئة كوردية عليا مهمتها رسم السياسة العامة وقيادة الحراك الكوردي – اعتماد مبدأ المناصفة في هيكلية كافة اللجان والتوافق في اتخاذ القرارات – تحريم العنف ونبذ كافة الممارسات التي تؤدي إلى توتير الأجواء في المناطق الكوردية “.
وللأسف لم تنفذ أياً من بنود هذه الاتفاقية حتى تاريخ كتابة هذا المقال فيما عدا تشكيل الهيئة الكوردية العليا بصفتها الاعتبارية, والتي فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة المناطق الكوردية وبالأخص في المجالين السياسي والاقتصادي الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام ,فقد زادت الهوة بين الأطراف السياسية ,كما أنه وفي هكذا ظروف وحينما يكون التفكير بالمستقبل نحو الأفضل والأمثل تسعى القوى التي تسيطر على مفاصل الحياة بكل ما تملك إلى الاهتمام بأحوال الناس في هذه المناطق من خلال توفير الحريات العامة والمستلزمات الرئيسية للمعيشة من كهرباء وماء ومحروقات ومواد غذائية أساسية لتحسين صورتها وتحقيق انطباع ايجابي وكسب تأييد أكبر عدد ممكن من فئات الشعب , ولكن ما شاهدناه في مناطقنا الكوردية كان الوضع مختلف تماما ًبالمقارنة مع بعض المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة ,حيث الكهرباء شبه مقطوعة على مدار اليوم والغاز مفقود ظاهرياً (أي متوفر ولكنه باهظ الثمن ) حيث تباع الجرة بمبلغ كبير وصل إلى أكثر من خمسة ألاف, ,وكذلك المحروقات في خضم أزمتها كانت شوارع قامشلو وكافة المناطق الأخرى وحتى اللحظة تملأ بالباعة وتجار السوق السوداء ولم تكافح هذه الظاهرة المثيرة للاستغراب ,كما أن الحصول على ربطة الخبز كانت معجزة ولم تخف حدة هذه الأزمة إلا بعد تقديم المساعدات من حكومة إقليم كوردستان,علماً أن هذه المساعدات وحقول نفط الرميلان والسويدية ومعمل الغاز والتي يمكنها أن تغطي كامل المناطق الكوردية فيما عدا ملايين الدولارات التي تحصل عليها من واردات وجمارك وضرائب معبر سيمالكا للأسف لم تكن قادرة على حل هذه المعضلة الاقتصادية أو تلاشيها والتي عانى منها شعبنا الكوردي ,وذلك نتيجة الفوضى في توزيعها و المحسوبيات وما عدا ذلك من إشكاليات حالت دون السيطرة عليها بالشكل المطلوب ولازالت المعاناة قائمة وأن كثير من الكورد كانوا في طي النسيان وعلى سبيل المثال لا الحصر الكورد في دمشق اللذين عانوا ولا يزالون أصعب أنواع المعاناة الاقتصادية و الأمنية فقد حرموا من جميع المساعدات والإغاثات بشكل متعمد من قبل هذه القوى وعدم الاكتراث لأحوالهم حتى اللحظة انطلاقا ًمن مفاهيم حزبية نفعية ضيقة .
وبعد مجمل هذه التحولات التي مرت بها الحركة الكوردية في غرب كوردستان وبعد قراءة سريعة لمجرياتها وإذا ما أعطينا لأنفسنا الحق أن نقّيم دورها من خلال الهيئة الكوردية العليا في المنطقة وفي محيطها الجيوسياسي يمكننا التوصل إلى جملة من التساؤلات والنقاط الملحة والمنطقية:
1 – هل استطاعت هذه الحركة و في مقدمتها الهيئة الكوردية العليا أن تستفيد من الصراعات والتناقضات السياسية الإقليمية والدولية والتحولات التاريخية في خدمة القضية الكوردية ؟
 2 – أليس الاعتقاد بأن مثل هذه الفرص التاريخية وما رافقها من تطورات دراماتيكية على الصعيدين الكوردي والسوري يمكنها أن تتكرر أو تستمر إلى الأبد, أو النظر إليها من منظار حزبي لا وطني خطأ تاريخي فادح لا يغتفر ؟
 3 – هل يمكن بأي حال من الأحوال لأية قوى سياسية أو حتى عسكرية كوردية مهما بلغت عنجهيتها وغطرستها تحقيق مكاسب سياسية أو حزبية حقيقية من وراء حرمان الشعب الكوردي من حقوقه و احتياجاته ؟
 4 – ألم تكن المتغيرات والمستجدات التي طرأت في ظل الهيئة الكوردية العليا وما فرضتها من واقع اجتماعي وسياسي جديد وخيارات فكرية إستراتيجية تبدو متباينة ومتناقضة تنذر بحالة كارثية مفجعة وبالأخص فيما إذا فشلت الجهود التي تبذل من اجل إعادة ترميمها ؟
 5 – ألم يكن من أهم أسباب فشل الهيئة الكوردية العليا في إدارة المناطق الكوردية هو تفرد أحد طرفيها ممثلاً بمجلس الشعب لغربي كوردستان وانتهاجه سياسية الإقصاء والتهميش تحت غطاء الهيئة الكوردية العليا ومن خلال تمرير أو ربما تكريس مفهوم سلطة الأمر الواقع والتنصل من الشراكة الحقيقية مع المجلس الوطني الكوردي والذي يتحمل أيضاً جزءاً من المسؤولية في هذا الفشل نتيجة ضعفه وجمود نشاطه الناجم عن انقسام مكوناته الحزبية وتغليب المصلحة الحزبية لبعض أحزابه على المصالح الوطنية العليا و إتباعها ذات المنهجية في التعامل مع بقية مكونات المجلس من المستقلين و مصادرة رأيهم وتحويل المجلس إلى مجلس أحزاب معطل ؟
 6- أليست التجاوزات و الخروقات لقوات  ” ypg”باسم الهيئة الكوردية وتغلغلها في تفاصيل حياة المواطنين الكورد و إيلاء الاهتمام بالسيطرة والتسلط وتجاهل مفهوم التعددية السياسية والحالة المعاشية والإنسانية للمواطن الكوردي هي من أهم الأسباب التي أوصلت الحالة الكوردية إلى مزيد من التشنج والاحتقان بات يهدد اللحمة الوطنية والتي أقل ما يمكن توصيفها بأنها صراع مع الذات ؟
7 – هل كان من الإنصاف أن تذهب كل تلك الجهود والطاقات والإمكانات الكوردية و الكوردستانية خلال عام من عمر الهيئة والتي كانت كفيلة بإجراء تحولات تاريخية ومفصلية في حاضر ومستقبل القضية الكوردية في سوريا هباءً منثورا في الصراع من أجل بقائها.
8 – ألا ينبغي علينا جميعاً دون استثناء وانطلاقاً من هذه المعطيات المؤسفة والمؤلمة حقاً العمل والإصرار على تفعيل دور الهيئة الكوردية العليا وتذليل العقبات أمامها والوقوف بحزم في وجه كل من يقف حجر عثرة أمام تطبيق بنودها وقراراتها والوصول بها إلى شراكة ومشاركة حقيقية و فعلية والحرص الشديد على عدم الانجرار إلى الاقتتال الكوردي–الكوردي والتي هي بمثابة انتحار سياسي للجميع وبالتالي القضاء نهائياً على أمال وطموحات هذا الشعب في الحرية والعيش بكرامة ؟

ومن هنا وإذا ما أردنا البحث عن آلية تقينا منقلبات الزمن وغدره ولأننا ندرك تماماً أنه في مختلف العصور والحضارات برزت مفاهيم ومصطلحات عديدة تدعو إلى علاقات البشر كجماعات وشعوب وقوميات وأمم وحتى ديانات كالاشتراكية والديمقراطية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان..

, ولكننا كشعب كوردي باعتقادي نملك ما يجمع كل من هذه المفاهيم والمبادئ والقيم الإنسانية في بوتقة واحدة ألا وهو نهج الكردايتي, كنهج يجد له مكاناً لائقاً في قاموس مجتمعنا الكوردي ورهان حقيقي في تجسيد وإرساء روح التعايش الأخوي المشترك، والقبول بالآخر، وبما تحتويه من قيم وأخلاق سياسية وثقافية واجتماعية ووطنية رفيعة تسري في وجداننا، وتتمثل في علاقاتنا وتعاملاتنا ,دونما عنف،أو اقتتال، أو ضيق،أو اضطهاد, كفيلة بأن تخرجنا جميعاً من هذه المحنة و ترسخ لدينا القناعة التامة بضرورة التحلي بروح المسؤولية التاريخية والوطنية على وقع معركة الحرية وإقرار الحقوق التي يخوضها شعبنا الكوردي في غرب كوردستان وعلى مختلف المجالات والأصعدة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…