الأسد: تاريخ طويل من «القراءات الخاطئة»

  محمد مشموشي *

لم يفعل رئيس النظام السوري بشار الأسد، باستخدامه الأسلحة الكيماوية في قصف ضواحي عاصمة بلاده دمشق، إلا ما فعله على الدوام منذ وراثته الحكم عن والده في 2000.

وأساس هذا الفعل قراءة الأسد الخاطئة للمشهد السياسي في المنطقة والعالم من جهة أولى، ولطبيعة العلاقات بين الدول التي تحترم نفسها من جهة ثانية، وبعد ذلك كله خطل توقعاته لرد الفعل المحتمل من هذا العالم من جهة ثالثة.
ومع أن لدى البعض ميلاً للاعتقاد بأن المسألة ليست مسألة قراءة خاطئة، بل هي تجسد مواقف وقرارات له متعمدة وعن سابق تصور وتصميم، فليس من شك في أن حصيلتها في الحالة الأخيرة هذه ستكون، كما في المرات السابقة، مزيداً من الخسائر وفقدان الثقة من شعبه في الداخل، والعداوات وفقدان الصدقية في المنطقة، والعزلة السياسية على مستوى العالم.
وعملياً، فلا معنى للتهديد حالياً بضربة عسكرية لآلة النظام العسكرية، وإن محدودة ومن الولايات المتحدة وحدها، سوى هذا المعنى.
وللتذكير، فسلسلة قراءات الأسد السياسية الخاطئة، أو لنقل مواقفه وقراراته المتعمدة، طويلة على امتداد الأعوام الثلاثة عشر الماضية كما يأتي:
= فعل ذلك بعد قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1559 حول لبنان في 2004، عندما وصفه بأنه لا يساوي ثمن الحبر الذي كتب به، لكنه عاد بعد أقل من ثلاثة أعوام ليعلن سحب قواته من لبنان تنفيذاً لهذا القرار بالذات… مع أن حداً أدنى من الفطنة كان يتيح له ادعاء أن الانسحاب يتم، على سبيل المثل، تنفيذاً لاتفاق الطائف أقله حفظاً لماء الوجه أمام شعبه، إن لم يكن أمام اللبنانيين الذين كانوا يطالبونه بذلك.

لكنه لم يملك حتى القدرة على استغلال هذا المهرب من التناقض الفاضح بين موقفيه.
والأنكى أنه وأتباعه استمروا، منذ ذلك التاريخ في نيسان (أبريل) 2006، يرددون أنه لن ينسى ولن يتسامح مع الانسحاب المهين لقواته من لبنان.
= وفعل ذلك، مرة أخرى، إزاء مبادرة الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز في قمة الكويت الاقتصادية تحت عنوان «عفا الله عما مضى»، وإبداء الاستعداد لفتح صفحة جديدة في العلاقات مع النظام في سورية، لكن رأس هذا النظام قدم لاحقاً كل ما يشير إلى أنه اعتبر المبادرة دليلاً على ضعف صاحبها في مواجهته السابقة معه من جهة، وعلى صحة مواقفه ومواقف حلفائه في المنطقة من جهة أخرى.
= وفعل الشيء نفسه، مجدداً، عندما نظر إلى توجه الرئيسين الأميركي والفرنسي الجديدين يومها، باراك أوباما ونيكولا ساركوزي، لبدء حوار معه حول نقاط الخلاف مع دولتيهما، بعد فترة عداء مستحكمة مع سلفيهما، على أنه اعتراف من رئيسي هاتين الدولتين (أقله، وفق إعلامه والناطقين باسمه حينها) بما وصف بـ «هزيمة الاستكبار العالمي» في حروبه على «تحالف المقاومة والممانعة» الذي يجمعه مع كل من إيران و «حزب الله» و «حماس» و… فنزويلا والبرازيل وكوريا الشمالية أيضاً.
ولعل دعوته يومها لحضور الاحتفال الرسمي بالعيد الوطني الفرنسي في باريس، وقرار أوباما تعيين سفير لبلاده لدى دمشق على رغم رفض الكونغرس، والزيارات المتعددة لسورية من قبل ساركوزي وجون ماكين الذي وصل إلى حد وصف نفسه بـ «صديق الأسد» وغيرهما من ساسة أوروبا، كانت مؤشراً جدياً إلى هذا التوجه الغربي الجديد.
لكن الأسد لم ير فيه إلا تأكيداً للاعتراف بـ «الهزيمة» المزعومة، بما أدى في النهاية إلى زيادة تدهور العلاقات بين البلدان الثلاثة في الأعوام التالية.
الحال في الفترة الحالية، أن الأسد استخدم الأسلحة الكيماوية والغازات السامة ضد شعبه أكثر من 14 مرة وفي أكثر من منطقة سورية في العامين الماضيين، ولكن على نطاق ضيق بحيث لم يسقط نتيجته ضحايا كثر بين المدنيين، وبالتالي عدم حصول غضب في المجتمع الدولي ولدى الرأي العام في العالم.
كذلك، فإن أوباما الذي أعلن قبل أكثر من عام أنه يعتبر الأسلحة الكيماوية خطاً أحمر، لم يشر ولو تلميحاً إلى أنه علم بما فعله الأسد، ولا إلى أنه قد يرد على ذلك بعمل عسكري، أو حتى بالسماح بتزويد «الجيش السوري الحر» الأسلحة النوعية التي طالما طالب بها.
في الوقت ذاته، لم تؤدِّ الجرائم التي ارتكبها (أكثر من 110 آلاف قتيل، وتشريد 6 ملايين إلى دول الجوار وفي الداخل، وتدمير بعض المدن والقرى بنسب تصل إلى 80 في المئة كما في حمص والقصير وأريحا إلخ…) إلى تغيير في مواقف دول العالم تجاهه.

بقيت روسيا والصين على موقفيهما في مجلس الأمن، وبقي الغرب على تردده في التدخل لوقف حرب الإبادة والتدمير المتواصلة أو في تسليح المعارضة للدفاع عن نفسها، وازدادت مشاركة إيران و «حزب الله» والمسلحين العراقييين واليمنيين المباشرة في هذه الحرب من دون رد فعل عملي ولا حتى إدانة لفظية من المجتمع الدولي… فضلاً عن موقف عربي إجماعي منها!
ومرة أخرى الآن أيضاً، قرأ الأسد واقع العالم و «جمود» دوله عند مواقفها وسياساتها السابقة بطريقته ذاتها.

وليس مبالغاً به القول إن قراءته الخاطئة القديمة – الجديدة هذه هي التي جعلته يستخدم الأسلحة الكيماوية والغازات السامة على هذا النطاق الواسع في غوطتي دمشق الشرقية والغربية.
… وغني عن البيان أن الحصاد النهائي، حصاد هذه القراءة، لن يكون مختلفاً هذه المرة كذلك.

*  كاتب لبناني
الحياة

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…