فهؤلاء القتلة الكبار الأربعة وعدوا بمنح الكرد شيئاً من حقهم وخانوا العهد، ونكلوا بشعبنا المستضعف في أشنع صور التنكيل، وأرشيفاتهم مليئة بأخبار ما اقترفته أياديهم من جرائم في كردستان، لا ينكرها سوى الأشد إجراماً منهم ضد الإنسانية.
الكرد يتناقشون الآن، وسط ابتسامات دبلوماسية عريضة وضحكات تهكمية في السر من جيرانهم، الذين انقلبوا جميعاً من “أعداء” إلى “أصدقاء” بصدد “المؤتمر القومي”، الذي يعتزم زعماؤهم عقده بعد أيامٍ قلائل في عاصمة إقليم جنوب كوردستان، والآمال معقودة على أن يخرج المؤتمرون بتوصيات وقرارات ترضي أغلب الأطراف المدعوة إليه ولا تزعج جيران الكرد، الذين هم في شغلٍ شاغلون، فمنهم من في حالة حربٍ داخلية استنفذت قواه المالية والحربية، في حين أن الآخرين يحاربون طواحين الهواء أو لديهم من المشاكل الاقتصادية والسياسية ما يعرقلهم عن تمويل حربٍ في “بلاد الأكراد”.
أو هكذا يبدو المشهد الذي يحلو لكثيرين من الكرد التمتع به، حتى ولو كان يبدو للبعض سراباً بقيعة.
“الإخوة الأعداء!” على بعد خطوةٍ أو خطواتٍ قلائل من عقد أضخم مؤتمرٍ قومي لهم، وهم يعلمون أن الفشل قد يأتي كنتيجة حتمية لنزاعاتهم على من له المكانة الأعلى والنصيب الأوفر والقرار النهائي، وقد ينقلب هذا المؤتمر الذي تتطلع إليه أفئدة ملايين الكرد بأمل إلى لحظة شؤم كبير في تاريخهم الحديث لأسباب عديدة، وفي مقدمتها العنعنات الحزبية التي يطلقها بعض الزعماء الذين يعتقدون بأنهم فراعنة أو محاربو الهكسوس الأشد، وكذلك صمت أعداء الكرد وكردستان، رغم خطورة هذه المبادرة التي تقدم عليها التنظيمات السياسية لأمة تم قهرها وإذلالها على مدى تاريخها الطويل، أو إظهار الأعداء الكلاسيكيين الود والرضا والقبول، والوعد بعدم وضعهم عراقيل في وجه عقد هكذا مؤتمر، على الرغم من أن أعداء الكرد مختلفون على الكثير مما بينهم، سوى على ملف “وحدة الكرد وحريتهم في اتخاذ قرارهم القومي وحقهم في تقرير مصيرهم”، فهنا تلتقي خطوطهم الحمراء ومصالحهم وجيوشهم وسياساتهم بالجملة.
بعض قادة الكرد على علمٍ بأن هناك أشخاصاً وقوىً وأحزاباً كردية في مظاهرها وأرديتها إلا أنها في الواقع ألعوبات في أيادي الدول المعادية للكرد وكوردستان، وبعضهم مستعد للتخلي عن كل طموحات أمته والدخول تحت عباءة الأعداء في حال اقصائه من مركز القيادة القومية، وبعضهم لا يؤمن سوى بالقوة طريقاً للانتصار على سواه في الداخل القومي وفي ساحة الصدام مع المحتل، والخطير في الأمر هو أن لكل عدوٍ اهتمامه الخاص بكتلةٍ من الكتل السياسية الكردية وذلك لتضارب الاستراتيجيات القومية في البلدان المقسمة لكوردستان.
إن دهاء بعض دهاقنة السياسة الكردية قد وصل إلى حد أنه يسعى للعب على كل الحبال المنسوجة والأوتاد المنصوبة في الوقت ذاته، فهو للحوار مع النظام الذي يذبح شعبه ويقابل حلفاءه سراً وعلانية، ثم يحاور في اليوم التالي من يثور على ذلك النظام ومن يدعم متطرفي الثورة، بل يعتبر نفسه “الثورة!” ذاتها دون سواه، ويطلب من الشعب الكردي تصديقه بأنه الوحيد القادر على إنجاز الثورة بعد ظهور عريه أمام الملأ على شكل عدة دباباتٍ غنمها دون قتالٍ.
لا… وكلا… أيها الأحباب… الأعداء متربصون بنا من كل طرف، وغير صامتين تماماً، بل إنهم ينسجون مؤامراتهم ويحبكون لنا الا فخاخ الناعمة من حرير السياسات السرية التي تستهدف وجودنا بأسره، ولديهم استراتيجيات، منها ما يعتمد أسلوب الانكار والرفض لكل ما يؤدي إلى الحرية الحقيقية لشعبنا، فيقول بلسانٍ عربي مبين ما يؤمن به بعمق بأن ليس للكرد أي حق قومي في التأسيس لوجودهم أو لبناء أي نوعٍ من الإدارة لأنفسهم، وهذا هو الأسلوب المفضل لدى العنصريين العرب، إسلاميين ويساريين وديموقراطيين، في سوريا المحطمة اليوم كإناءٍ من الفخار المبعثرة أجزاؤه، ومنهم من يعطي الحق على الورق ويسرقه في وضح النهار دون رادعٍ خلقي، ناقضاً للوعد الذي قطعه على نفسه وعلى شعبه وشعبنا ومستهزئاً بالكردي الضعيف الذي يصدق الأعداء ويتعرض لخيانتهم كل مرة، كما هو الحال في العراق، بعد سقوط دولة الصنم في عام 2003 ، فلا الدستور دستور ولا القانون قانون وكلام الليل يمحوه النهار، ومنهم من عقيدته المذهبية استراتيجية وطنية، بل إنها أهم ما عنده من سياسات ومن أوطان، والكرد في نظرهم ليسوا سوى مرتدين عن شرعهم، ويجب اعادتهم إلى شيعتهم، فلا إسلام دون تشيع ولا حقوق لقوم خارج إطار الولاء التام لولاية الفقيه ومعصومية الإمام وانتظار القادم المختفي الذي سيطلع قريباً ليملأ الدنيا عدلاً، ولا حاجة لدولة أو نظام، لأن كل هذه الأشكال والصور الإدارية زائلة حين ينبثق النور من باب السرداب الذي اختفى وراءه الإمام.
وهذا ما نراه جلياً في استراتيجية الملالي الإيرانيين، المنغمسة حتى الأذقان في الرياء والنفاق والسخرية من الكرد.
أما الاستراتيجية الأخطر على شعبنا البائس المغلوب على أمره، فهي التي وضعها مخططو الاستراتيجية التركية، بعد أن فشلت كل محاولاتهم التاريخية لتصفية الوجود القومي الكردي ولم تأتِ الحروب لهم سوى بالخسران وضياع الأموال ومزيد من تفكك دولتهم، ولذلك كان لابد من رسم استراتيجية جديدة حيال الكرد وكوردستان، نذكر للقارىء الكريم بعض أعمدتها في سطورٍ قلائل.
وفي الحقيقة هذه ليست استراتيجية جديدة كما يزعم أصحابها من غلاة الطورانيين الأتراك، وإنما هي في جانبٍ كبير منها مطورة من التي كان العثمانيون ومن بعدهم البورجوازيون في ظل العلمانية الأتاتوركية يعملون وفقها حيال الشعب الكردي والأقليات القومية والدينية:
أول بنود هذه الاستراتيجية هو اقناع الكرد وسواهم من أبناء الأقليات القومية كالأرمن واللاز والشركس واليونان والبلغار، وكل من يطلق الأتراك عليهم تسمية “كوجمن” بأن المقصود من “تركيا” ليس وطن القوم التركي القادم منذ قرونٍ عديدة من أواسط آسيا فحسب، وإنما وطن كل الأقوام التي يعيش معها الأتراك في هذه البقعة من الأرض، وإقناع الجميع بأن اللغة التركية الحديثة – وهي لغة محدودة الألفاظ من حيث تاريخها- مزيج من لغات هذه الأقوام والشعوب ومتأثرة كثيراً باللغة العربية بسبب الانتماء الديني والتاريخ العثماني، وتتشرب المفردات الإنجليزية والألمانية بسرعة واتساع، لذا لاتعد لغة قومية وانما هي لغة الأمة التي تعيش في تركيا، وإن كانت في تسميتها العامة تدعى بالأمة التركية، وهنا يلعب القوم التركي الأصيل، الذي لا يشكل إلا جزءاً محدوداً من المجموع السكاني للبلاد، دوراً ريادياً، على هذه الأقوام والقوميات الأخرى القبول به والسير وراءه لأنه جدير بالقيادة لأسباب تتعلق بذكائه وقدرته على جر الشعوب وراءه بحد السيف فهو من أصل “الذئب الأغبر” الذي لا ينكر أحد قوته وقدرته على المحافظة على عرقه وأصله عبر التاريخ، في مختلف أقاليم الطبيعة، في حين انقرضت حيوانات مفترسة كانت أشد منه بأساً وأكثر عددا.
وعليه فإن سرقة ثقافات ولغات وفلكلور الأقوام التي تعيش مع الترك باتت أمراً طبيعياً، فهم جميعاً من وجهة نظر الاستراتيجية “الحديثة!” صاروا أتراكاً أو على الطريق لتحويلهم إلى أتراك صالحين ونافعين.
ولقد نجح الطوران في تحقيق نتائج باهرة بانتهاج هذا البند الأول من استراتيجيتهم المطورة، فاللغة الكردية ليست إلا “لهجة” تركية، والثقافة الكردية ما هي إلا جزء من الثقافة التركية، وحتى عيد نوروز “اليوم الجديد” ليس إلا عيداً تركياً أصيلاً، على الرغم من أنه كان ممنوعاً بقوة السلاح قبل أعوام قلائل، وصار الحديث اليوم عن الأمة التركية الأوسع شمولاً من القومية التركية على لسان الكثيرين من مثقفي تركيا، أتراكاً كانوا أو سواهم، ومنهم مع الأسف من بني الكرد أيضاً.
البند الثاني في الاستراتيجية هو إظهار الدولة التركية العلنية التي تبدو وكأنها دولة ديموقراطية، العضو في حلف الناتو، دولة سلام ووئام مع مختلف الشعوب المجاورة، إذ ليس لديها مشاكل مع الآخرين، وتسعى حكوماتها من أجل تحقيق مبدأ “صفر مشاكل” مع البلدان المحيطة بتركيا، وإظهارها كالمعتدى عليه أمام القضاء الدولي، على الرغم من اغتصاب الأتراك أراضي البلغاريين واليونان والعرب والكرد والأرمن والقبارصة، والترك ليسوا في حالة عدوان وإنما يدافعون عن أرضهم، فاناتوليا ليست إلا الأناضول، واسكندرون “هاتاي”، والقبارصة محتلون والكرد لم يكن له وطن، على الرغم من أن سلاطين الترك اعترفوا ب”كوردستان” منذ قرونٍ في فرماناتهم الشهيرة، والأرمن غزاة نالوا جزاءهم بعد تطاولهم على أبناء وأحفاد “الذئب الأغبر”.
وفق هذا البند من الاستراتيجية يحق للحكومة التركية ولمخططي استراتيجية تركيا تقرير مصير الموصل وكركوك وحلب والجزيرة، وما رفع العنصريين الترك راية في وسطها ثلاث أهلة إلا القول الصريح بثلاثة دولٍ تركية (تركيا الحالية وشمال قبرص وولاية الموصل)، بل هناك ميزانية سنوية رمزية من ضمن الميزانية التركية مخصصة لولاية الموصل التي تضم منابع البترول المتدفقة ذهباً أسود في كركوك.
وعليه فما يطالب به الكرد من أرضٍ ليست لهم مرفوض وموقف الحكومة التركية من مطالبهم حتى في سوريا يجب أن يكون واضحاً: “ما تريدون نيله من حقوق أينما كنتم يجب أن يبقى ضمن إطار الاستراتيجية التركية وفي ظلها وحدود “الميثاق المللي”، وإلا فإن غضب الذئب الأغبر سينالكم مرة أخرى بعد أن ذقتم منه مراتٍ عديدة من قبل.
فوزير الخارجية التركية اللطيف الناعم أحمد داوود أوغلو هو الذي سيحدد للكرد ما يطالبون به في سوريا ومن يدعونه إلى مؤتمرهم القومي في هه ولير (أربيل) وما ينجم عنه لقاؤهم المأمول هذا من نتائج على أرض وطنهم، الذي ليس في الحقيقة التركية سوى جزء من أرض أجداد وآباء الترك.
هناك بنود أخرى خطيرة على وجود شعبنا وقضيتنا القومية العادلة في الاستراتيجية الطورانية المطورة، منها محاولة “احتواء” الحركة التحررية الكردستانية أينما كانت، حتى الفصائل المسلحة والمقاتلة منها، وذلك أسوةً بسياسة العثمانيين التي تمكنت بسعة أفقها وادراكها تشكيل 64 فرقة من الجيش الإنكشاري الذي كان في غالبيته من أبناء العشائر الكردية، ولا يستبعد أن يسلك الاردوغانيون ذات المسار مع حزب العمال الكردستاني وتوابعه في أجزاء كوردستان المختلفة.
ومن أجل تحقيق الأهداف التركية من سياسة ” الاحتواء” هذه لابد من تقديم تنازلاتٍ ما للحركة الكردية، وقد يكون التنازل على مستوى قبول “الحل الفيدرالي” المطروح من قبل فصائل سياسية كردستانية حالياً.
ومن الأتراك من يقول:” طالما لا نستطيع كبح جماح القومية الكردية، فلنسع إلى احتواء قيادات الكرد بشتى الوسائل، وهذا يعني قبول مطلب الفيدرالية، كما في كوردستان العراق.”
ومن بنود الاستراتيجية الطورانية وضع اليد على الحياة الثقافية الكردية ومختلف أوجه النشاط الاقتصادي والمالي للكرد، ليس في تركيا فحسب وإنما في سائر الأقاليم الكردية، وخارج البلاد أيضاً.
وهذا ما تم تطبيقه فعلاً على جنوب كوردستان، منذ انسحاب الإدارة العراقية من الإقليم بعد انتفاضة 1991 وحدوث الهجرة المليونية الرهيبة لشعبنا على أثرها.
وها هو الإقليم يكاد يكون ولاية تركية من حيث النشاط الاقتصادي.
وفي حين كانت الحكومات التركية تهمل اللغة الكردية وتحاربها بقوة، فإن حكومة أردوغان عاملة على تسخير اللغة الكردية أيضاً في تمرير مخططاتها وتنمية سياساتها على أرض الواقع الكردي، فهي تسمح لمحطات التلفزيون وللصحف الناطقة بهذه اللغة، كما تسمح بنشر الكتب الكردية، إلا أنها تمارس سياسة تتريك صارمة في غرب تركيا حيث ملايين المشردين الكرد النازحين إلى المدن الكبيرة بهدف صهرهم في بوتقة القومية التركية.
يضاف إلى هذه البنود أن الحكومة التركية مستمرة على استخدام الأسماء الكبيرة للعوائل ورؤساء العشائر ورجالات الكرد، حسب الحاجة، فاستغلت مختلف هذه الأسماء لوضعها في مواجهة الثورات الكردية، وعادت لتنفيذ سياسة التنكر لهذه الشخصيات ومن ثم عزلها أو تصفيتها أو الإساءة إليها بين الشعب الكردي.
هكذا فعل العثمانيون برؤساء العشائر غير المنضمة للثورات الكردية، وهكذا انقلب مصطفى كمال على النواب الكرد غير الثائرين وقضى عليهم بوحشية لا مثيل لها، وكذلك الحكومات البرجوازية المتعاقبة على دست الحكم في أنقره قد مارست سياسة عزل الكرد بعضهم عن بعض ودمرت بذلك وشائج العلاقات الاجتماعية ضمن القوم الكردي على الدوام.
وهنا يجدر بالذكر تبيان أن العائلة البارزانية رغم سعي رجالاتها إقامة علاقات متوازنة مع كل الأصدقاء والأعداء، دون التخلي عن حق الأمة الكردية في الحرية والحياة.
هدف من أهداف الطورانية التركية، تسعى لنسف قدراتها وقيادتها وسياستها.
والطوران الذين ينسجون الكثير من شباك الاصطياد من خلال تحريك قوى الظلام للدولة السرية، يعملون من أجل القضاء على البارزانية فكراً وسياسة وقوة تنظيمية وعسكرية، من خلال خلق بدائل “كردية” مرتبطة بالنظام السياسي الطوراني ومستعدة للمساهمة كقوات مرتزقة من أجل تنفيذ وتحقيق المخططات التركية العلنية والسرية.
وآمل أن ينتبه الكرد جميعاً إلى هذه النقطة الخطيرة والبند الخطير في الاستراتيجية الطورانية.
لا أريد الاطالة في الموضوع أكثر مما كتبته في هذا المقال، لأن البعض من القراء الكرام لا يريد قراءة الموضوعات الطويلة، مهما كانت هامة و مثيرة.