شادي حاجي
لم تعد الجاليات المهاجرة في أوروبا مجرد جماعات ثقافية تعيش على هامش السياسة، بل أصبحت فاعلاً مؤثراً في صياغة القرار العام، خصوصاً حين تنجح في تنظيم نفسها والعمل ضمن الأطر القانونية والمؤسساتية. وفي هذا السياق، تمتلك الجالية الكردية في أوروبا فرصة تاريخية لتحويل وجودها العددي والسياسي إلى قوة ضغط حقيقية تخدم القضية الكردية، شرط الانتقال من ردود الفعل العاطفية إلى العمل المنظم طويل الأمد.
أولاً : السياسة من الداخل لا من الهامش
أثبتت التجربة الأوروبية أن التأثير الحقيقي يبدأ من داخل المؤسسات.
انخراط الجالية الكردية في الأحزاب السياسية الأوروبية، سواء الكبرى أو المحلية، والترشّح للمجالس البلدية والبرلمانات، يفتح الباب أمام نقل القضية الكردية من الشارع إلى قاعات القرار. فالتأثير في برامج الأحزاب وسياساتها الخارجية لا يتم عبر الشعارات وفي المناسبات ، بل عبر الحضور الفاعل والعمل اليومي داخل هذه البنى .
وإلى جانب ذلك، يشكّل تأسيس جماعات ضغط (لوبيات) قانونية ومسجلة أحد أكثر الأدوات فاعلية في أوروبا.
لوبيات تعمل باحتراف، تتواصل مع البرلمانيين ووزارات الخارجية، وتقدّم ملفات موثقة بدل خطابات عاطفية إنشائية، قادرة على إحداث فارق ملموس في السياسات.
ثانيًا: كسب الرأي العام عبر الإعلام
في المجتمعات الديمقراطية، الرأي العام هو بوابة القرار السياسي. لذلك، يصبح الظهور في الإعلام الأوروبي ضرورة لا ترفاً .
كتابة مقالات رأي، المشاركة في البرامج الحوارية، وتقديم متحدثين كرد يتقنون لغة البلد المضيف وثقافته، كلها أدوات تصنع صورة مختلفة وأكثر مصداقية عن القضية الكردية.
أما وسائل التواصل الاجتماعي، فرغم أهميتها، فإن استخدامها العشوائي أو الانفعالي قد يأتي بنتائج عكسية.
المطلوب حملات منظمة، متعددة اللغات، تستند إلى حقائق موثقة، وتبتعد عن الخطاب المتطرف الذي ينفّر بدل أن يقنع.
ثالثًا: الحقوق قبل الشعارات
حين تُقدَّم القضية الكردية بوصفها قضية حقوق إنسان، لا مجرد صراع قومي، تتوسع دائرة المتعاطفين والداعمين. التعاون مع منظمات دولية مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، وتوثيق الانتهاكات وفق المعايير القانونية، يمنح الخطاب الكردي قوة أخلاقية وقانونية يصعب تجاهلها.
كما أن اللجوء إلى المحاكم الأوروبية أو آليات الأمم المتحدة، متى ما كان ذلك ممكناً، يحوّل المعاناة إلى ملفات قانونية تضغط على الحكومات وتحرجها أمام التزاماتها الدولية.
رابعًا: التحالف بدل العزلة
العمل منفرداً في الساحة الأوروبية لم يعد مجدياً. بناء تحالفات مع جاليات أخرى تعاني من قضايا مشابهة، ” كالأرمن والآشوريين والعرب الديمقراطيين وآخرين والمدافعين عن حقوق الأقليات .. نموذجاً ” وذلك بحسب تواجد هذه الجاليات في هذه الدولة الأوروبية أو تلك ، يضاعف الصوت ويعزّز التأثير. كذلك، فإن التعاون مع الجامعات، النقابات، ومراكز الأبحاث يساهم في نقل القضية الكردية إلى فضاءات أكاديمية وفكرية مؤثرة في صناعة القرار.
خامسًا: البيت الداخلي أولاً
لا يمكن لأي جالية أن تكون مؤثرة إذا بقي خطابها ممزقاً بخلافات وصراعات حزبية أمام الرأي العام. توحيد الخطاب السياسي، أو على الأقل إدارة الخلافات بعيداً عن الإعلام، شرط أساسي لاكتساب الثقة. كما أن الاستثمار في تأهيل كوادر شابة، مدرّبة سياسيًا وإعلاميًا وقانونيًا بلغة البلد المضيف، هو رهان المستقبل الحقيقي ويفضل التركيز على القطاع الطلابي الجامعي الكردي في أوروبا .
خاتمة:
طريق طويل لكنه ممكن
الدول الأوروبية لا تتحرك بدافع العاطفة، بل وفق معادلة تجمع بين الرأي العام، حقوق الإنسان، والمصالح الاقتصادية والأمنية. وكلما قُدّمت القضية الكردية ضمن هذه المعادلة بوصفها قضية عدالة وديمقراطية واستقرار إقليمي، لا مجرد نزاع قومي، زادت فرص تحويل التعاطف إلى قرارات ملموسة.
إن التأثير السياسي في أوروبا ليس ضربة واحدة، بل مسار تراكمي يتطلب صبراً، تنظيماً، ونَفَساً طويلاً . لكنه مسار ممكن، إذا أحسنت الجالية الكردية استخدام الأدوات المتاحة لها في واحدة من أكثر البيئات السياسية انفتاحاً في العالم.
وإلى مستقبل أفضل
ألمانيا في ٢٠/١٢/٢٠٢٥