حسن خالد
في الثامن من “ديسمبر” كانون الأول ٢٠٢٤، وقبل عامّ بالتحديد، كنتُ في مهمة عمل في منطقة شبه مقطوعة عن العالم “لا إنترنت متوفر” وأن توفر ففي حالة ضعف، وكذلك “ضعف شديد في شبكة الهاتف الخليوي حدّ الملل” لذا لم أكن اعرف مجريات الأحداث السورية
هاتفني أخٌ عزيز مساءً، ليطمئن على صحتي و وضعي، و لِيُبشرني ب “فرار الأسد” من دمشق إلى جهة غير معلومة، وإن كانت الشكوك تحوم حول فراره إلى روسيا، وزحف الجمع الثوري في “غزوة الموتورات – الدراجات النارية” وتسلم “هتش” مقاليد الحكم في “الشام شريف”!!
بعد أن سقطت المدن الكبرى تتاليا…
لم أعد أعرف، هل أفرح لسقوط الأسد؟ أم أتوجس خيفة بمجيئ هؤلاء الخارجين عن سياق التاريخ و “روح العصر” إلى سدّة الحكم؟
وبينما كنتُ جالسا في صبيحة اليوم التالي، أتشمس لبضع دقائق من برد يلسع، متفكرا في الحدث ومتسائلا:
أمن المعقول أن يفر الأسد؟
وكل الدلائل كانت تشير إلى وجود رغبة دولية لتعويم نظامه وتقويم سلوكه، وحضور الأسد القمة العربية وعودة فتح بعض السفارات والقنصليات في دمشق لمزاولة العمل كان مؤشرا على استبعاد وحتى استحالة انهيار النظام عسكريا!
هل من المعقول أن ننتقل من هاجس (عسكرة المجتمع) إلى وضعية (أسلمته) بل لأكُن أكثر وضوحا “تسننه” ببعده السياسي!!
صادفني رجل مار، وباركني بسقوط “الأسد الظالم” بعد أن عرف أني من إقليم “ڕۆژئاڤا” و ش.ش.سوريا.!
لكنه استغرب من إجابتي عندما قلت له: وهل تظن أن الذي أتى _ وأقصد هنا “الجولاني” _ سيكون أفضل لنا “نحن الكرد” منه _ أقصد هنا بشار الأسد_، لننتظر ولا ندع لنشوة النصر أن تأخذنا إلى مواقف نندم عليها لاحقا!
لأن غاية “الثوار” تحولت _ بعد أسلمة الثورة_ من الإتيان بالتغيير المنشود، إلى عملية استبدال مستبد علوي بآخر، ولا يضير إن كان سُنيا، في صراعِ أضدادٍ لخصتها شعارات اتخذها كل طرف أيقونة حراكه:
– (يبقى الأسد أو نحرق البلد)
– (نحرق البلد ولا يبقى الأسد )
حدثت أشياء كثيرة منذ تلك الفترة العصيبة، لعل أكثرها بروزاً مجازر طائفية في الساحل وغيرها ضد العلويين بحجة ملاحقة الفلول، والصِدام مع الدروز في أكثر من مكان ولأكثر من مرة وتأليب السلطة الوليدة أبناء العشائر في الفزعات العشائرية، وتساهل الدولة/ السلطة مع خطاب الكراهية ضد المكونات المختلفة والذي علا بشكلٍ مرعب، واللعب بورقة (أقليات_ أكثرية) وهي التي تدعو إلى دولة المواطنة والمساواة أمام القانون!!
منح “الرئيس المؤقت” لنفسه سلطات، فاقت صلاحيات الأسد وأيّ رئيس سوري سبقوه، بكثير،
التدخل الفج في تغيير مناهج تربوية تتوافق مع نظرة أحادية لمفهوم الوطن والوطنية!
إجراء حوار وطني “شكلي” و اختيار من سيختارون مندوبي الشعب في مجلسه وتعيين الرئيس لثلثه المعطل فيه!
وكان الأبرز على مستوى العلاقة مع الخارج، التدخل التركي_السعودي لصالح السلطة الجديدة حدّ التوسط لدى إسرائيل، رغم غض الكرد بشكلٍ مريب عن خروقات ضربات (الأزرق) في عديد الأماكن السورية، ليجتمع بالرئيس الأمريكي ترامپ في الرياض والبيت الأبيض لاحقا.
التودد للروس لمساعدتهم إلى المياه الدافئة والتحجج ب “المصالح العليا”
وقطع الطريق أم إيران بحجة مناصرة الأسد وخوض الحرب إلى جانبه ضد الثوار والشعب!
كان توقيع اتفاق العاشر من آزار ٢٠٢٤ مع قائد قوات سوريا الديمقراطية “الجنرال: مظلوم عبدي” على بنود تتكفل بمنع الصِدام وحلّ المعضلات العالقة والمضي باللقاءات وجولات التفاوض حدثت بارزا للوصول إلى صيغة توافق حول كيفية بناء الدولة الجديدة بالشراكة، والدمج في مؤسساتها المدنية والعسكرية وعبر آليات دستورية!
سادت ثقافة قديمة جديدة نسميها ونعيها تسمى “ثقافة التكويع”!
المفارقة لا تكمن هنا في تسابق معسكر المؤيدين السابقين و “الفلول” وتكويعهم للسلطة الجديدة، والتي أتت ب “الشرعية الثورية_ شرعية السلاح” في مؤتمر (النصر العظيم) ومبايعة قادة الفصائل له كما يدّعون!
ولا من مؤيدي قسد ” ذات الميول الإنفصالية” بزعمهم!
إنما كانت جلها من مؤيدي الثورة أنفسهم، الذين كانوا يرون في “الجولاني” وشلته خنجرا مسموما في خاصرة الثورة السورية (ثورة مضادة)!
وما هي إلا سويعات حتى ذاب الإئتلاف بواجهته السياسية وفصائله العسكرية، بقضه وقضيده، حتى بقايا داعش لم يجدوا صعوبة في التسلل إلى أماكن حساسة في مؤسسات رسمية واجهتها الدولة السورية، ليظهروا “جميعهم” (هتشيين) أكثر من “الجولاني” نفسه، بدرجةٍ مئوية فاق مقياس “التكويع البشري” بأشواط، على أنغام (من يُحرر يُقرر) والتي باتت (إنجيل الثوار المنتصرين) لا ينبغي أن يُمس!
لأن الثقافة تتناقل، والإقصاء جزء من كينونة مجتمع لا يقبل التنوع وفسيفساء التنوع!!
ولفهم الصورة كاملة متكاملة، أيقنت ولم أزل، أن صفقة ما – وإن كانت مرحلية – تمت في مكانٍ ما، داخل إحدى “السوريات” الكثيرة!
ليكون الجولاني “المطلوب الأول أمريكيا” رأس الحربة في عملية التغيير الممكنة، تناسب متغيرات المرحلة ومشروع الشرق الأوسط الجديد، ومن خلاله حصرا، ليُنجز المهمة الموكلة إليه، والتي عجز الأسد أو لم يرغب في إنجازها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن لكل طرف مصالحه وحساباته وتحالفاته وتوازناته…
☆ثلاثة مطالب مشروطة وافق عليها الجولاني سراً ليتحول إلى الشرع علناً وإن إلى حين!!
- حل معضلة المقاتلين الأجانب القادمين من كل حدب وصوب، إما قانونيا “تجنيسهم”‘ أو التخلص منهم “عمليات تصفية” فيما بينهم المقاتلين الإيغور و أحداث “مخيم الفرنسيين”!
لأن غالبية الدول التي ينتمي أليها هؤلاء المقاتلين لا يرغبون، ولن تسمحوا قوانينها بعودتهم لما سيشكلونه من خطورة لاحقا فالقوانين هناك متساهلة مع هذه النماذج، وهذه تحديدا سبب عدم موافقة تلك الدول على استلام المعتقلين في (مخيم الهول) وغيرها من أماكن الاعتقال لدى قسد وقوات التحالف!
- المضي بسوريا في سردية حوار الديانات /الإسلام والمسيحية واليهودية “الاتفاق الإبراهيمي” وتصفير المشاكل مع أبناء العم “الأزرق” والسعي لتوقيع اتفاقية سلام دائمة معها وتطبيع الأوضاع، وتقديم ضمانات حقيقية بعدم إشعال الجبهة في الجنوب السوري بضمانة أمريكية_غربية، تحت طائلة اللجوء للبند السابع الذي يجيز اللجوء للقوة والتدخل العسكري!
- الانتقال بسوريا إلى دولة لا مركزية يتمتع فيها كل مكون من المكونات السورية بخصوصيته ( القومية _ الطائفية _ الثقافية)..
لأن المطالبة بلامركزية الدولة تجاوزت مطالبة الكرد وحدهم بها، ولم يعد مطلبا كرديا صرفا، أو حتى مطلبا داخليا صرفا، إنما باتت هذه المطالب اشتراطات من دول فاعلة في الملف السوري، بينها دول عظمى في إشراك الجميع في الحكم والإدارة، وخاصة (شركائنا الكرد)!!
كل ذلك مقابل تغاضي الغرب وبتوافق إقليمي، و يرغب “الشرع” ذاته أيضا بالقطيعة مع ماضٍ كان فيه “الجولاني” رأس الحربة ضد تنفيذ ما يرغب “الشرع” مكرها في تنفيذه الآن، وعاقبة الرفض ستكون مكلفة…
عامٌ مضى، بما له وبما عليه ليخرج علينا السيد “أسامة عثمان” وهو شريك قيصر في تسريب صور المعذبين من {باستيل سوريا} بتصريحات في مقابلة تلفزيونية ويقول: “هرب الأسد، لكن النظام لم يسقط بعد”
أثارت هذه العبارة جدلا واسعا، وانقسم الشارع السوري بين مؤيد ومعارض كانت نتيجتها المؤلمة، (تخوين) أحد الرموز الذين ساهموا في فضح ممارسات نظام مستبد، وأدت لمعاقبته من خلال “قانون قيصر”.
جردة حساب هذا المخاض لا تُبشر بأن الحصاد وفير وأنّ ولادة الجمهورية السورية الرابعة، ستكون يسيرة، وكل الدلائل تشير بأن الذي خرج من حظيرة الأسد، لن يرضى بعد الآن، أن يتحول ل (حيوان آخر) في حظيرة خلفه، سيقاتل لتستمر شعلة الثورة متقدة إلى أن يجني السوري ثمرة ثورته في نَيل حريته وكرامته مهما كان الثمن باهظا، ف ((الحر لا يتهاون في اختيار الموت إن كان بديله المذلة!))..