الكورد بعد سقوط النظام السوري.. تموضع سياسي وتحديات بنيوية

زينه عبدي

ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة وأهمها الانتقالية التي نعيشها الآن. 

في خضم كل هذه التقاطعات برز الكورد كأحد أهم وأبرز الفاعلين السياسيين والانتقال بأنفسهم من الإقصاء إلى التفعيل والشراكة الوطنية الحقيقية عبر وعي سياسي جامع، أثبت قدرتهم على أن يكونوا اللاعب الأشرس على الساحة السياسية السورية عقب الانهيار، ليس فقط من جانب المطالبة بالحقوق والاستحقاقات قانونياً ودستورياً، بل باتوا ركناً رئيسياً في عملية إعادة صياغة جامعة للدولة السورية القادمة وفقاً لرؤيتهم السياسية الواضحة بمنأى عن أي شكل من أشكال الحكم المركزي الذي أهلك سوريا شعباً ودولةً.

التحول السياسي

عقب الانهيار التام للنظام العفلقي الأسدي، ظهر الكورد مستثمرين لحظات الفراغ السياسي في المرحلة الانتقالية لبلورة دورهم الفاعل ذي الرؤى والخطاب السياسي المتين والمتناغم مع مبدأ الشراكة الوطنية والمواطنة الفاعلة. الأمر الذي هيأهم للانتقال سريعاً من التهميش المزمن إلى المشاركة الفعالة والمباشرة داخل المشهد السوري الجديد، بعد عقود من الحرمان والتهميش والإنكار والإقصاء متمثلة بتغييب هويتهم الكوردية والاعتراف بهم دستورياً، والتمثيل الحقيقي داخل البرلمان ومؤسسات الدولة؛ ورغم ذلك استطاعوا بناء خبرة تنظيمية وسياسية وعسكرية متماسكة، رشحتهم للدخول في مراكز صنع القرار داخل الهياكل والمؤسسات الانتقالية.

القوى الكوردية لم تعد مجرد حركات مدنية أو أحزاب سياسية معارضة، بل باتت محوراً أساسياً وشريكاً حازماً في إعادة الصياغة المشتركة فيما يخص السياسات العامة للبلاد ورسم مراحل المسار التفاوضي على كامل الجغرافيا السورية؛ كونها، وعلى سبيل المثال، برزت كقوة سياسية ذات تنظيم سديد يعتبر نموذجاً ناجحاً للإدارة المحلية كما في روجآفاي كوردستان (شمال وشرق سوريا). هذه التجربة منحتهم شرعيتين: سياسية وشعبية قوية من كافة المكونات الموجودة بالمنطقة.

مع الانفتاح الانتقالي على الساحة السياسية السورية، أعيد تعريف موقع الكورد داخل مراحل الانتقال السياسي في عملية بناء سوريا الجديدة، عبر تقديم رؤيتهم وخطابهم الأكثر اتساعاً بإطار المشاركة عدلاً ومساواةً في بناء الدولة، متجاوزاً حدود فكرة القضية الكوردية والهوية القومية فقط. هذا الخطاب المتحول من المطالبة بالحقوق الدستورية إلى شراكة ومساهمة في بناء الوطن الواحد يعد أهم ملامح الانتقال السياسي في التاريخ الكوردي في سوريا؛ حيث الطرح المعمق والتصورات حول مسائل وقضايا نماذج الحكم المناسبة للوضع السوري بما فيها الفيدرالية أو اللامركزية السياسية، وتقديم مسودة مشاريع إصلاحية على مستوى الدستور والقانون، وعرض آليات لكيفية الدمج عسكرياً بضمانات تحافظ على خصوصية قوتهم العسكرية التي صارت مدرَّبة بأشرس وأنظم التدريبات بالشراكة مع القوى الإقليمية والدولية، الأمر الذي يضع السلطة الانتقالية في موقف اللارجعة من التعاقد بالشراكة الوطنية مع هذه القوة المتينة.

اليوم، وبعد ما يقارب العام على سقوط النظام أو هروبه، بات النظر إلى الكورد كرقم صعب في المعادلة السورية: حيث الحضور الفعلي لتجربتهم السياسية والعسكرية والتنظيمية على الأرض، والوعي التراكمي سياسياً وإدارياً وشبكات موسعة من العلاقات إقليمياً ودولياً. هذا التمركز الحديث في واقع وموقع الكورد في ظل المرحلة الانتقالية يعكس وبقوة تغيراً حقيقياً في مجريات الأحداث السورية انتقالياً، لاسيما فيما يخص التحولات العميقة في طبيعة السلطة الانتقالية نفسها، حيث الاضطرار، حتى ولو دون رغبة منها، في الاعتراف بالتنوع والتعدد السوري هوياتياً والضرورة التي باتت تفرض نفسها على الجميع دون استثناء ألا وهي إشراك الجميع في العملية التأسيسية.

تعقيدات بنيوية

رغم الحضور السياسي البارز بصورة تصاعدية للكورد خلال عام واحد فقط من المرحلة الانتقالية، إلا أنهم لا يزالون في مواجهة أعقد العقبات التي تحول دون تجاوزها، بل وتحد من الوصول إليها في مسألة تحويل المكتسبات إلى واقع دستوري دائم، وتفعيل الدور الحقيقي داخل مؤسسات سوريا الانتقالية حالياً.

لاتزال البيئة السياسية في ظل المرحلة الانتقالية هشة بكل المقاييس رغم التطور والتحول الذي تظهره السلطة الانتقالية منذ تسلمها إدارة سوريا على كافة المستويات. هذه البيئة قابلة بل ومهيأة للتقلبات وفقاً لتوازنات القوى الداخلية والإقليمية، ما يضع المكتسبات الكوردية أمام خطر الانتكاسات في حال لم تحصَّن  داخل الدستور والتسويات النهائية. بمعنى أن التحدي الأكبر حالياً هو التحويل التام لإطار النفوذ المحلي إلى ضمان قانوني ودستوري بلا منازع.

هناك عامل ضعف الثقة بين المكونات السورية، فعلى الرغم من المساع والجهود من قبل الكورد لترسيخ قيم الشراكات الوطنية وتعزيزها، إلا أن وتيرة المخاوف من التجربة الكوردية لاتزال محل نقاش وشكوك، ما يضع الجميع في مرحلة بناء جسر الثقة من جديد وتجسير الهوة والشرخ والتشرذم القائم في ظل المرحلة الانتقالية.

وفي ذات السياق، لاتزال عديد القوى السورية في الداخل والخارج تسعى لتحجيم دور الكورد وإعادته إلى الأطر المعنونة بـ”الأقلوي” عوضاً عن الاعتراف به كشريك تاريخي على الأرض السورية لا يجوز إقصاءه، بل ويجب تجريم العملية الإقصائية المتمثلة بتغييب التمثيل في البرلمان رغم ادعاء السلطات الانتقالية بوجود الكورد فيه؛ لكنهم لا يمثلون الكورد الحقيقيين ولا الرؤية الكوردية بل هم مجرد أبواق للسلطة والنفوذ والمصالح الشخصية عبر اعتراضهم الواضح لمشروع القضية الكوردية وشكل الحكم الذي يريده الكورد والغالبية العظمى من الشعب السوري، ألا وهو اللامركزية السياسية.

محاولة تأجيل الاعتراف بالحقوق القومية والهوياتية للشعب الكوردي إلى ما بعد عبور المرحلة الانتقالية أو الدخول نوعاً ما في مرحلة الاستقرار، تجبر الكورد على خوض حرب سياسية متواصلة حفاظاً على حضورهم الحقيقي ضمن الجسم الانتقالي الحالي.

ومن جانب آخر، الضغوط الإقليمية على الدور الكوردي في سوريا يضعه على تماس مباشر بين مصالح الفواعل الإقليمية، ما يجعل دورهم السياسي في المشهد السوري غاية لمحاولات إضعافه أو تعطيله بشكل كامل بصورة غير مباشرة.

الأفق

بإيجاز، الدور الكوردي وفي سعيه الحثيث نحو فضاءات أوسع من الشراكات السياسية السورية، فرض وبقوة حضوره كركن أساسي داخل مسارات الحل السياسي السوري في إطار شكل الدولة السورية المقبلة. من المرجح أن يشارك الكورد في صياغة نموذج الحكم الجديد لسوريا الجديدة بصورة أكثر توافقية مع اللامركزية (السياسية) التي تضمن العدالة في الحكومة والثروات، والاعتراف بشكل رسمي بالتعدد الهوياتي والقومي. 

بوصفهم قوة تمتلك تنظيماً سياسياً وعسكريا واضحاً ورؤية موحدة لإدارة المجتمع، فإن مسألة حضور الكورد الفعلي سيستمر حتى الانتقال بها بصورة حقيقية إلى الداخل المؤسساتي. لذا الكورد هم الشريك الرئيس على المستوى الوطني في بناء سوريا الجديدة القائمة على الشراكة والمواطنة الفاعلة ودستور يعترف بالجميع.

وأخيراً، بعد عام من هروب النظام السابق وسقوطه، لم يعد الكورد طرفاً عابراً أو هامشياً في المرحلة الانتقالية، بل أثبتوا وبجدارة أنهم كيان سياسي يفرض حضوره واحترامه داخلياً وخارجياً وفقاً لرؤية جلية ومستقبل مرتجى لسوريا تجمع لا تقصي، تجمع ولا تفرق.

المسألة ليست فقط في نيل الحقوق، بل تكمن في إعادة بلورة سوريا الجديدة كدولة حقيقية قائمة على أسس إعادة تعريف مفهوم الدولة كما يجب وليس كما يتمنونه، وفي هذا السياق يظل السؤال الأكثر حساسية طارحاً نفسه على الملأ السوري: هل ستسمح السلطة الانتقالية الحالية أو الدولة السورية الجديدة أن يكون الكورد شريكاً حقيقياً، أم سيظلون في مواجهة المحاولات الإقصائية تحت مسمى جديد؟ الإجابة ستحدد لاحقاً النموذج الجديد للدولة السورية القادمة وطبيعتها.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد حسو إن مسيرة الشعب الكوردي هي مسيرة نضال طويلة ومستمرة، لم تتوقف يومًا رغم الظروف الصعبة والتحديات المتراكمة، لأنها تنبع من إرادة راسخة ووعي عميق بحقوق مشروعة طال السعي إليها. ولا يمكن لهذه المسيرة أن تبلغ غايتها إلا بتحقيق الحرية الكاملة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التمييز القومي أو الديني…

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…