د. محمود عباس
هل يُعقَل، بعد هذا السيل الجامح من خطابات الحقد والعنصرية ضد الشعب الكوردي وحراكه، أن يُطالَب الكوردي بالاطمئنان إلى نظامٍ سياسي أو أمنيٍّ يحمل في بنيته النفسية هذا الكمّ المتراكم من العداء المسبق؟
فالطمأنينة لا تُنتَج بالأقوال والخطب ولا بالبيانات ولا تُفرَض بالشعارات، بل تُبنى على السلوك والممارسة، وحين يكون الخطاب العام مشبعًا بالإقصاء والتحريض، فإن مطالبة الحراك الكوردي بالثقة لا تكون دعوة إلى الاستقرار، بل مطالبة لها بتسليم مصيرها لمن يُشهِر العداء ضد وجودها.
وما يُبثّ اليوم على المنابر الرسمية وشاشات التحريض يكشف ذهنية لا ترى في الكوردي شريكًا في وطن، بل “خطرًا داخليًا” يجب إخضاعه أو كسره باسم وحدةٍ مُفرغة من مضمونها.
والكورد، في هذا المشهد، ليسوا استثناءً، بل جزءًا من طيفٍ أوسع يضمّ العلويين، والموحّدين الدروز، ومكوّنات أخرى تُستهدف بخطاب إقصائي منظّم؛ غير أنّ الكوردي يُحاصَر ببُعدٍ إضافي أشدّ خطورة، هو الحقد القومي الممزوج بالتكفير، في مفارقة فاضحة تجعل أغلبية كردية مسلمة وسنيّة تحديدًا خارج تعريف “الإسلام” لأن معيار الإيمان لدى هذه العقليات ليس القيم ولا الأخلاق، بل التطابق الثقافي مع نموذجٍ مغلق يُكفّر المختلف ويشيطن حرية المرأة ويحوّل الخيار الشخصي إلى تهمة.
من هنا لا يمكن قراءة ما يجري في سوريا بوصفه انفلاتًا عابرًا أو فوضى خطابية، بل بوصفه مسارًا يُنتَج بعناية، تُساق فيه الكراهية سياسيًا وتُغذّى أمنيًا تمهيدًا لتحويل الأزمة من مشكلة دولة إلى حرب مجتمع ضد مجتمع.
فالقوى الإقليمية لا تدفع نحو حافة الانقسام لأن التنوّع خطر بذاته، بل لأنها تسعى إلى إنقاذ ذاتها عبر تفجير الجغرافيا السورية، حيث يصبح التقسيم مسارًا يُمهَّد له عمليًا بالتحريض واستدعاء العنف الكامن وتوسيع الشروخ التي صنعها النظام المجرم البائد وتركها مفتوحة عمدًا.
وفي القلب من هذا المشهد تتعامل أنقرة مع سوريا لا كجارٍ مأزوم، بل كساحة أمان مؤقتة لاحتواء أزماتها الداخلية وعلى رأسها المسألة الكردية، فيتحول تفكيك إمكان التعايش السوري إلى أداة وقائية لتأجيل استحقاق داخلي لا إلى حلّه.
أدوات هذا المسار باتت مكشوفة: كيان حاكم انتقالي بلا قرار سيادي، منظمات تكفيرية مُعاد تدويرها، وخطاب تعبوي موجّه إلى الشارع السُنّي العربي لتحريضه ضد المكوّنات الأخرى، وعلى رأسها الكورد، لا بهدف الحسم، بل لتوسيع الشرخ إلى نقطة اللاعودة. هكذا يُعاد إنتاج مناخٍ يجعل الفيدرالية أو حتى التقسيم مخرجًا مقبولًا عند بعض المذعورين، لا خيارًا عقلانيًا، بل ردّ فعل يائسًا على اقتراب حربٍ أهلية.
وما نشهده من تصعيد علني في خطاب الكراهية، من فيديوهات التهديد ورسائل التحريض وتصريحات المسؤولين وصولًا إلى الأداء الإعلامي الممنهج، ليس انفعالًا عابرًا، بل مؤشرات صلبة لمسارٍ يُراد له ترسيخ العداء كخيار سياسي مسبق، إذ لم يعد الخطاب العام يسعى إلى التهدئة أو الرتق، بل إلى التعبئة والتجييش، ومع كل دعوةٍ للعنف تتبخّر أوهام المصالحة ويتأكد أن الاتجاه نحو الانفجار.
أمام هذا الواقع يصبح تفكير شريحةٍ من المكوّن السُنّي الواعي بالتقسيم تعبيرًا عن خوفٍ وجودي أكثر منه رغبة في التفكك؛ فعندما تتحول الدولة إلى منصة تحريض، والدين إلى أداة فرز، والقومية إلى سكينٍ في الخطاب اليومي، يبدو التقسيم، لدى البعض، أهون الشرّين.
في المقابل تقف شرائح أخرى في الضفة الأخطر، من جهلاء السياسة وفلول البعث وأدوات المشروع التركي، لا تبحث عن حلّ، بل عن صراع مفتوح، ولا عن دولة، بل عن ساحة اقتتال دائمة تُدار بالخوف ويُعاد عبرها إنتاج الاستبداد في هيئة حربٍ أهلية.
والمفارقة القاتمة هنا أن الدعوة الفعلية إلى الحرب الأهلية لا تصدر عن دعاة الفيدرالية واللامركزية، بل عن أنصار “الوحدة القسرية” الفارغة من مضمونها، التي لا تحمل من الدولة سوى الاسم ولا من الوطن سوى جغرافيا مُنهكة.
أما الفيدرالية واللامركزية السياسية فليستا مؤامرة ولا وصفة تقسيم، بل آخر الأدوات العقلانية المتبقية لتفكيك الاستبداد دون تفجير المجتمع، لا لإرضاء الهويات، بل لتحييدها سياسيًا ونزع فتيل الصراع قبل تحوله إلى محرقة.
ويبقى السؤال الذي لا مفرّ منه، كيف يُطلب من الكوردي أن يطمئن لنظامٍ يرى في وجوده خطرًا بنيويًا لا مواطنًا كامل الحقوق؟
الطمأنينة لا تُفرض بالقوة ولا تُشترى بالشعارات، وما يُنتَج اليوم يكشف ذهنية لم تتخلّ عن منطق الهيمنة، بل بدّلت لغته فقط. والكورد، كما سائر المكونات المستهدفة، يواجهون حملةً ممنهجة يضاف إليها تكفيرٌ يطالهم رغم سنيّتهم لأن معيار “الإسلام” هنا امتثالٌ ثقافي لا أخلاق، وخضوع لا إيمان.
ما نعيشه ليس أزمة فيديوهات ولا زلات خطاب، بل كارثة ثقافية ومنهجية؛ ظلامٌ كثيف أشدّ قسوة من عصور الظلام الأوروبية لأنه يتغذّى من الدين ويتسلّح بالقومية ويستعير أدوات الدولة العميقة.
وحين يتوهّم أصحاب هذا الخطاب أنهم “أقوياء” أو يبشّرون بنهايات الآخرين، فهم لا يكشفون عن قوة بل عن عجزٍ فكري مزمن وعقليةٍ لم تتعلّم من سقوط نظامين سوى استبدال الزيّ.
الخطر الحقيقي ليس في صراخ الجهلة، بل في السماح لهم بتحديد مستقبل سوريا. وفي هذه اللحظة تحديدًا، يصبح تفكيك هذا الخطاب وتعريته أخلاقيًا وسياسيًا واجبًا وطنيًا، لأن البديل ليس وحدةً حقيقية، بل خرابًا بلا نهاية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
1/12/2025م