عبدالرحمن كلو
لم تكن مشاركة بعض الكورد في الدورة الثامنة عشرة لمنتدى الأمم المتحدة المعني بقضايا الأقليّات، المنعقدة في جنيف يومي 27 و28 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، حدثًا وحسب أو التباسًا بروتوكوليًا؛ بل كانت علامةً على خلل أعمق في إدارة التمثيل السياسي الكوردي داخل المنابر الدولية أوالأممية. فالكورد — بوصفهم شعبًا أصيلًا يعيش على أرضه التاريخية كوردستان — لا يندرجون ضمن الفئة القانونية للأقليات القومية بحسب التشريع الدولي ، بل ضمن الإطار الذي حدّدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في إعلان حقوق الشعوب الأصلية، الصادر في 13 أيلول/سبتمبر 2007 بموجب قرار A/RES/61/295.
هذا الإعلان يؤكد أن الشعوب الأصيلة هي تلك التي تعيش على أراضيها التاريخية ولم تتسنّ لها إقامة دول مستقلة خاصة بها، فظلّت كيانات سياسية–جغرافية داخل دول قائمة، وهو الوصف الذي ينطبق بدقة على الشعب الكوردي في الأجزاء الأربعة من كوردستان. لذلك، فإن إدراج الكورد ضمن “الأقليات” ليس خطأً مفاهيميًا وحسب، بل تشويش وتدليس قانوني وسياسي يمسّ جوهر قضيتهم.
ومع غياب القوى الحزبية والمؤسسات السياسية الكوردية عن المنتدى ، تصدّر المشهد أفراد لا يملكون تفويضًا وقدموا أنفسهم كممثلين لـ” الأقلية الكوردية “. وهكذا كانت كوردستان — بكل ثقلها التاريخي والقانوني — ” خارج القاعة “، بينما دخلها من لا يملك شرعية تمثيلها.
إذًا ما هو الفرق بين الشعب الأصيل والأقلية في الحالة الكوردية ؟ إن التمييز بين الأقليات (Minorities) و الشعوب الأصيلة (Indigenous Peoples) ليس مجرد فروق لغوية أو لفظية، بل هو مفتاح الحقوق السياسية في القانون الدولي.
الأقليات تتمتع بحقوق حماية ثقافية ضمن إطار الدولة القومية أو الوطنية.
أما الشعوب الأصيلة، وفق إعلان الأمم المتحدة 2007 (A/RES/61/295)، وهي تمتلك حقًا جماعيًا في الأرض التي سبقت نشوء حدود الدول الحديثة، حقًا في تقرير المصير الداخلي، وحقًا في الحكم الذاتي المحلي في المجالات المختلفة ذات العلاقة بخصوصيتها الجغرافية السياسية .
وبهذا المعنى، فإن الكورد ليسوا أقلية لغوية أو دينية داخل الدول التي تتقاسم كوردستان ( الوطن) ، بل شعبٌ أصيل مقسّم قسرًا بين أربع دول، ويملك إقليمًا تاريخيًا متصلاً. ويُعد الوضع الدستوري لإقليم كوردستان العراق مثالًا صريحًا: فهو كيان اتحادي ذو صفة وطنية خاصة بالإقليم ، لا يمكن تصنيفه ضمن آليات حماية الأقليات.
لذلك، فإن قبول أو ترويج صفة ” الأقلية ” على الكورد يُعد انزلاقًا خطيرًا، لأنه ينقل قضيتهم من إطار أممي يعترف لهم بالحقوق السياسية كشعب أصيل إلى إطار ضيق يمنح حماية ثقافية فقط. وهذا ما يجعل المشاركة في منتدى الأقليات تقزيماً وتزييفًا لصوت شعب، سواء حدث ذلك عن جهل أو عن انتهازية تستثمر غياب المؤسسات الكوردية الرسمية.
وفي هذا الإطار يمكن طرح جملة توصيات سياسية واستراتيجية للقوى السياسية الكوردية بمختلف مواقعها، ويمكن لإقليم كوردستان العراق- بحكم علاقاته الدولية – ان يساهم في هذا التوجه .
- إعادة توحيد الخطاب السياسي على أساس تعريف ” الشعب الأصيل “
اعتماد نصوص إعلان الأمم المتحدة 2007 كأساس للخطاب الخارجي، ورفض أي توصيف يقلّص مكانة الكورد إلى ” أقلية “.
- تأسيس آلية دبلوماسية كوردية موحدة
وضع معايير واضحة للمشاركة في المحافل الأممية، تمنع التمثيلات الفردية غير المفوضة من احتلال موقع تمثيلي.
- رفض المشاركة في أي إطار أممي يُقزّم القضية أو تشويه مضمونها.
إعلان مبدأ واضح: لا مشاركة كوردية في أي منتدى يصنّف الشعب الكوردي كأقلية ، بغض النظر عن الجهات الراعية.
- إعداد ملف حقوقي شامل عن الشعب الأصيل في كوردستان
يتضمن الأدلة التاريخية–الجغرافية، وتطبيق مواد إعلان 2007 على الحالة الكوردية، وتقديمه للهيئات الأممية المختصة.
- بناء خطاب مضاد يفضح المشاركة المضلِّلة
إعلان أن من حضر منتدى الأقليات لا يمثل الشعب الكوردي، وأن مشاركته قامت على تزوير الهوية القانونية لا على تفويض سياسي.
- تطوير كوادر دبلوماسية متخصصة
إنشاء برامج تدريب تعتمد المعايير الأممية في التمثيل، لضمان وجود خبراء قادرين على حماية مكانة كوردستان داخل المنابر الدولية.
- يمكن اعتبار ما حدث في جنيف درسًا استراتيجيًا ، فالفراغ السياسي يملؤه الوصوليون، والتمثيل غير المؤسساتي يخلق أزمات تعريفية تمسّ جوهر القضية القومية.
وأخيرا يمكن القول أن ما حدث في جنيف لم يكن مجرد مشاركة هامشية او فوضوية تشويشية ، بل كان تقويضًا خطيرًا للتعريف الأممي للشعب الكوردي. فالكورد ليسوا أقلية تبحث عن حماية رمزية، بل شعبٌ أصيل معترف له — منذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة A/RES/61/295 لعام 2007 — بحقوق جماعية تتعلق بالأرض والهوية وتقرير المصير الداخلي. واختزال هذا الشعب في إطار ” الأقليات ” لا ينتقص من الحقوق فحسب، بل يشوّه الوجود السياسي للكورد ويقزّم قضيتهم إلى مستوى لا يعكس تاريخهم ولا جغرافيتهم ولا نضالهم القومي. لذلك، فإن حماية مكانة الشعب الكوردي تتطلّب وعيًا سياسيًا موحدًا، وتمثيلًا مؤسساتيًا رصينًا، وخطابًا يستند إلى الوثائق الدولية لا إلى اجتهادات أفراد يسعون إلى موطئ قدم في مشهدٍ أكبر منهم.
وعليه فمكانة الكورد تُستمد من علاقتهم بوطنهم كوردستان، لا من توصيفات نمطية عابرة في المنتديات الدولية. ومن هنا، فإن رفض التقزيم وصون صفة الشعب الأصيل ليس خيارًا سياسيًا أو إجتهادًا في التحليل والتوصيف ، بل هو واجب وجودي لأمة تاريخية لم تدخل يومًا إلى التاريخ بوصفها أقلية، ولن تخرج منه بهذه الصفة.