أكرم حسين
في حدثٍ سياسي لافت، تجاوز حدود الصورة ليمسّ جوهر التوازنات في المنطقة، جاءت زيارة قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي ، و رئيسة دائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية الهام احمد ، إلى إقليم كردستان العراق لحضور “منتدى السلم والأمن في الشرق الأوسط ” في الجامعة الأمريكية بدهوك.
الاستقبال الذي حظي به عبدي – احمد من قبل رئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني و الزعيم الكردي مسعود بارزاني، وبحضور رئاسة المجلس الوطني الكردي، لم يكن مجرد مشهد عابر، بل محطة مفصلية كشفت عن حراك عميق يهدف إلى إعادة هندسة المشهد الكردي السوري استعداداً لاستحقاقات المرحلة المقبلة.
لم تأتِ الدعوة ولا الحضور في سياق المجاملات؛ بل كانت خطوة مدروسة بأبعاد مركبة تتشابك فيها الحسابات المحلية بالإقليمية، والسياسي بالأمني. إن مشاركة مظلوم عبدي في منتدىMEPS الذي يحمل صبغة دولية منحه مساحة حيوية لتسويق رؤية “قسد” الجديدة، التي تسعى للانتقال من “الفاعل العسكري” الذي هزم تنظيم داعش، إلى “الشريك السياسي” الذي لا يمكن تجاوزه في معادلة الحل السوري. يأتي هذا ، في توقيت حساس يتصاعد فيه الحديث عن ضرورة توحيد سلطة القرار في المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق، وربما تسريع تنفيذ استحقاقات اتفاقية “10 آذار”، بما يضمن لقسد موقعاً تفاوضياً متوازناً في أي ترتيبات مستقبلية تمس وحدة الجغرافيا السورية.
على الجانب الآخر، يحمل استقبال الرئيس مسعود بارزاني لعبدي دلالات لا تخفى على المراقب. فالزعيم الكردي، المدرك لحساسية وتعقيدات الواقع الكردي في سوريا، التقط كعادته اللحظة لإعادة ترتيب البيت الداخلي ، ولذا جمع “عبدي” و”احمد” مع قيادات المجلس الوطني الكردي على طاولة واحدة ، وهي رسالة سياسية بامتياز مفادها أن استمرار القطيعة بين قطبي الحركة الكردية السورية (الإدارة الذاتية والمجلس الوطني) لم يعد خياراً متاحاً، وأن المرحلة تقتضي تجاوز الخلافات البينية لضمان الحد الأدنى من المشاركة في مستقبل الدولة السورية .
تكمن القوة الدافعة لهذا اللقاء في “الضرورة الواقعية” أكثر منها في الرغبة العاطفية. فالتغيرات الدولية المتسارعة والاهتمام المتجدد بالملف السوري يفرضان على الكرد إعادة التموضع. تدرك الأطراف الكردية اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن الانقسام هو الثغرة التي تنفذ منها المخاطر، وأن امتلاك “موقف جماعي” متماسك هو شرط البقاء. بالنسبة لمظلوم عبدي، أي مشروع سياسي مستدام يحتاج لشرعية “كردية جامعة” تكسر طوق الحصار الداخلي والتشكيك الخارجي ، وبالنسبة للمجلس الوطني الكردي، فإن تجاهل (قسد) لم يعد مجدياً، وان الانخراط في شراكة سياسية قد يكون السبيل الوحيد لتمثيل مصالحه ومصالح قاعدته الشعبية. هنا يأتي دور الرئيس بارزاني كـ “ضامن” يمنح الطمأنينة للطرفين ويخلق توازناً يمنع تكرار أخطاء الاتفاقات السابقة.
وإذا ما نظرنا إلى هذا الحراك بتفاؤل حذر، فإن انعكاساته قد تكون كبيرة . نحن أمام فرصة حقيقية لإحياء التقارب الكردي-الكردي المتعثر، وربما التوافق على “إدارة مشتركة” للمنطقة، وصياغة إطار تمثيلي موحد للعلاقة مع دمشق والمجتمع الدولي. هذا التقارب من شأنه أن يعزز بلا شك الموقع التفاوضي للكرد فيما يخص الحقوق الدستورية والإدارية. ومع ذلك، لا تزال الطريق مفروشة بالألغام. فالخلافات الأيديولوجية العميقة، والتدخلات الإقليمية الرافضة لأي تقارب كردي، وتباين الرؤى السياسية بين المجلس والإدارة الذاتية، كلها عقبات تتطلب مقاربات مرنة وشجاعة.
خلاصة القول إن لقاء دهوك – هولير يمثل “بداية واعدة” لحراك سياسي قد يعيد رسم الخارطة الكردية في سوريا ، وخطوة قوية قد تؤسس لمرحلة جديدة شعارها “الشراكة والتنسيق”. ولكن، لكي لا تبقى هذه الخطوة يتيمة كما حدث مع “مؤتمر 26 نيسان” وغيره، يتوجب على الأطراف المعنية استثمار هذه اللحظة السياسية بعقلانية، وتحويل المصافحات في دهوك إلى واقع ملموس من الاستقرار والوحدة في القامشلي وكوباني وكل المدن الكردية . الأبواب فُتحت، والكرة الآن في ملعب الساسة الكرد السوريين لاغتنام هذه الفرصة قبل فوات الأوان ؟