الكُرد السوريون… شركاء الوطن لا ضيوفه

بنكين محمد

منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة، لم يكن الكُرد يوماً هامشاً في تاريخ الوطن، بل وُضعوا هناك قسراً. فالكُرد الذين شاركوا في بناء سوريا الحديثة، وساهموا في مقاومة الاستعمار، وتعزيز مؤسسات الدولة وتشكيل إدارتها، وجدوا أنفسهم لاحقاً خارج المشهد الوطني لا لضعف في الانتماء، بل لإصرار السلطة على صناعة وطنٍ بلون واحد وصوت واحد ورواية واحدة.
الكُرد الذين وقفوا في صفوف الجيش، وعلّموا في المدارس، وخدموا في الإدارات، لم يسألوا يوماً عن هويتهم بقدر ما سألوا عن واجبهم تجاه الدولة الوليدة. كانوا أبناء الأرض، شركاء في التراب والمصير. لكنّ عقوداً من السياسات العروبية الإقصائية جعلت من وجودهم «إشكالية» ومن حقوقهم «تهديداً». فصار الكردي مواطناً من درجة ثانية، ثم ثالثة، ثم «مقيماً بلا أوراق» في وطنه.
جاء تعداد 1962 ليحرم أكثر من 100 ألف كردي من الجنسية السورية، في خطوة سياسية قاسية لم يُرتكب مثلها في المنطقة. آلاف العائلات استيقظت لتجد نفسها بلا هوية، بلا حق في التملك أو التعليم أو العمل. أريدَ للكُرد أن يكونوا جماعة مُلغاة قانونياً، وكأنهم طارئون على أرض يعرفون تضاريسها أكثر من الذين سيطروا على الدولة باسم العقيدة
ثم تبعتها سياسة «الحزام العربي» التي حاولت تغيير جغرافيا القرى الكردية وطمس هويتها. قُرى اقتُلعت من جذورها، وأسماء أُلغيت لتُزرع أخرى لا تمتّ للمكان بصلة. كان المطلوب أن يُلغى التاريخ من الذاكرة، وأن تُصاغ هوية البلاد على مقاسٍ واحد، لكنّ الكُرد ظلّوا يقاومون بالوعي والصمود، لا بالسلاح والانتقام. طالبوا بالحقوق، لا بالانفصال. دعوا إلى المواطنة، لا إلى الهيمنة. رفعوا صوت المظلومية في وجه سلطة أرادت إسكاتهم، لكنهم لم يرفعوا يوماً السلاح بوجه وطنهم.
ومع اندلاع الأزمة السورية عام 2011، كان كثيرون يتوقعون أن يختار الكُرد طريقاً منفصلاً، لكنّهم فعلوا العكس. دافعوا عن مناطقهم حين تخلّى الآخرون عنها، وحافظوا على ما تبقّى من مؤسسات الحياة في زمن الفوضى. قاوموا الإرهاب بدمائهم، بينما كان البعض يبدّل الأعلام ويستجلب التدخلات الخارجية. في لحظة انهيار الدولة، كان الكُرد من أكثر المكوّنات تماسكاً ومسؤولية، ينادون بالديمقراطية والحقوق المتساوية، ويقاومون خطابَ الكراهية الذي مزّق البلاد.
ورغم كل التضحيات، ظلّ الشك يلاحق وطنيتهم. وكأنّ على الكُرد أن يقدّموا «برهان انتماء» في كل مناسبة، بينما يُمنح غيرهم شهادات الوطنية بمجرد الولادة. حتى اليوم، تُناور السلطة في الاعتراف بحقوقهم الثقافية والسياسية والدستورية. يُطلب منهم التضحية والصمت معاً، لكنهم اختاروا الصبر واليقين؛ صبرَ من يعرف ماذا يحمل من تاريخ، ويقينَ من يعرف أنّ الوطن لا يُبنى بالإقصاء.
إنّ الوطنية الكردية ليست شعاراً سياسياً، بل سيرورة نضال طويل، جرحٌ مفتوح صاغته عقود من التهميش، ولكنه ظلّ جرحاً كريماً، لا يدعو إلى الكراهية بل إلى العدالة. الكردي السوري لم يطلب امتيازاً، بل حقّه الطبيعي في أن يكون مواطناً كاملاً، لا ملفاً أمنياً أو ورقة تفاوض تُفتح حين تشاء السلطة وتُغلق حين تشاء.
لقد حاولت الحكومات المتعاقبة أن تجعل من الكُرد هامشاً في كتاب الوطن، لكنهم صاروا الصفحة الأوضح فيه. حاولت تغيير لغتهم، فصارت اللغة رمزاً وهوية. حاولت نفيهم من التاريخ، فصاروا ذاكرة المكان. حاولت إسكاتهم، فكانوا الضمير الذي لا يموت.
الكُرد السوريون ليسوا «أقلية تبحث عن اعتراف»، بل مكوّناً أصيلاً يبحث عن شراكة حقيقية. لم يتركوا الوطن يوماً، بل الوطن هو من تركهم. ومع ذلك، ظلّوا أوفياء له، مؤمنين بسوريا الممكنة… سوريا القانون، لا التمييز؛ سوريا المواطنة، لا الامتيازات؛ سوريا التي يتساوى فيها الجميع، لا سوريا التي تُكتب بلون واحد.
الوطنية ليست إذناً من أحد، بل موقفٌ وذاكرة وتاريخ. والكُرد السوريون أثبتوا أنّهم لم يكونوا يوماً ضيوفاً على هذا الوطن… بل من بناته الأساسيين.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…