ماهين شيخاني
في ربيع العمر السادس عشر، حين كان زملائي يتبارون في حصد شارات الشبيبة البعثية، اخترت أن أكون ذلك الغصن الشائك الذي يرفض الانحناء للعاصفة. انتسبت للحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا ( الپارتي) بقلب ينبض بقضية، بينما كانت المدرسة كلها ترتدي زياً أخضر كأنه غطاء للعقول. كنتُ الوحيد الذي يرفض أن يكون ظلاً لشجرة الاستبداد.
لم يكن رسوبي في البكالوريا مجرد رقم، بل كان قصيدة احتجاج كتبها القدر بأحرف من نار. 113 درجة تتهاوى أمام ربع علامة في الكيمياء، كأنما الكون يختبر إصراري. حتى الرياضة التي مارستها، من كرة القدم إلى الطائرة، كانت تمريناً على الصمود – ألقي بالكرة عالياً فأصطدم بسقف الممنوع.
في أغسطس 1983، حملت حقيبتي العسكرية ممتلئة بدفاتر الشعر الكوردي وكتب متنوعة. ثلاث سنوات وأنا أحول خدمتي الالزاميةإلى جامعة، والحراس إلى طلاب غير مقصودين لفكرتي. حين سرحت في أكتوبر 1986، كانت الأقدار تنتظرني عند أبواب مدرستي “شجرة الدر”، لتسلمني أقلام الاجتماعيات وكأنها أسلحة مقاومة.
ولكن الفن كان انتفاضتي الصامتة. حين استلمت مادتي المفضلة، حوّلت الفصل إلى مرسم حرية. كان الطلاب يأتون بريشتهم كجنود يحملون بذور التمرد. كل فصل كنا ننظم معرضاً، كل لوحة كانت طلقة في وجه الرمادي.
لكن يناير 1992 جاء بقبضته الحديدية. اعتقلوني لأن فرشاتي تجرأت على رسم الحقيقة. أيام التعذيب لم تنزع إيماني، لكنها زرعت ندوباً على جسدي كإمضاءات على عريضة الرفض. طردوني من التدريس كي لا أُعلّم الطلاب كيف يرسمون أحلامهم.
ثمانية عشر ربيعاً من الوظائف المرفوضة، كل “نأسف” في خطاب الرفض كان سكيناً جديدة. حتى جاءت المفارقة الساخرة عام 2009، حين غاب رجال الأمن عن مسابقة بسبب فضيحة اختلاس، ففزت بوظيفة لم أحلم بها يوماً. في الخمسين من عمري، كنتُ أتقبل الهزيمة كصديق قديم.
وفي ديسمبر 2020، أغلقوا ملفي الوظيفي كما يُطوى علم منهك. تقاعدت بلا راتب، لكن بكنز من الذكريات. طلابي الذين صاروا رجالاً يأتون لزيارتي، يحملون بين طياتهم تلك الدروس التي لم تكن في المنهج.
طوال المسيرة، لم أنحنِ إلا لله. بقيتُ كتلك الشجرة العتيقة في ساحة المدرسة – جذوري عميقة في تراب القضية، وأغصاني ترفض أن تكسرها رياح الزمن. قد أكون خسرت الوظيفة والراتب، لكنني ربحت نفسي.