سليمان سليمان
(توضيح: هذا المقال لا يستهدف الإيمان أو المتدينين الصادقين، بل يناقش بنية الوعي الديني والاجتماعي، ويطرح رؤية إصلاحية ترى في بناء الإنسان جوهر أي نهضة حقيقية.)
ليست القداسة في البناء، بل في الإنسان الذي يمنح المكان روحه. فالمساجد مهما علت مآذنها واتسعت قبابها لا تصنع نهضة ما لم يسكنها عقل حرّ وقلب نقي. فالعمران المادي، مهما بلغ من جمال واتساع، يظلّ بلا قيمة إن لم يصاحبه عمران للضمير والعقل. إن بناء الإنسان هو الأصل، لأنه وحده القادر على أن يجعل من المسجد أو أي مركز ديني فضاء للوعي لا للاتباع، وللرحمة لا للتعصب.
إن جوهر الدين، في أعمق معانيه، هو تحرير الإنسان من الجهل والخوف، لا إخضاعه لهما. فالإيمان الأصيل لا يناقض السؤال، بل يفتحه على أفق أوسع من التأمل والتفكير. وقد كانت الدعوة إلى النظر في الكون والتفكر في الخلق نواة مشروعٍ حضاريٍ يقوم على العقل والحرية. غير أن التاريخ، حين تداخلت فيه السلطة السياسية مع السلطة الدينية، حوّل الدين من قوةٍ تحررية إلى أداة ضبط اجتماعي، فصارت الطقوس غايةً بدل أن تكون وسيلة، وتحول الإيمان من وعي إلى عادة.
الأمم التي نهضت لم تفصل الدين عن الأخلاق، لكنها فصلت بين الإيمان كقيمة داخلية وبين احتكاره كسلطة خارجية. فحين تحرر العقل من الوصاية، أصبح الدين مصدر إلهام روحي وأخلاقي، لا أداة تقييد أو إقصاء. أما في مجتمعاتنا للأسف ، فقد استبدلت القيم الجوهرية للمعتقد بالمظاهر الشكلية، وتحولت المساجد من منارات للعلم إلى منابر لإعادة الخطاب نفسه دون مساءلة أو تجديد.
إذن ليست المشكلة في بناء المساجد، بل في الاعتقاد بأن كثرتها تعني بالضرورة عمق الإيمان. فحين يُقاس التدين بعدد المآذن لا بعدد العقول المستنيرة، يختزل الدين في معمار جميلٍ لكنه فارغ المعنى.
وماذا تنفع كثرة المساجد إن ظل الإنسان يظلم باسم الدين، أو يقصى ويكفر لمجرد اختلافه؟ ما جدوى الأصوات التي تملأ السماء بالدعاء إن كان المئات ينامون جوعا، أو يموتون في الحروب التي ترفع فيها شعارات الإيمان؟ إن الإيمان الذي لا يردع عن الظلم، ولا يحرك الضمير تجاه معاناة الإنسان، يفقد جوهره الأخلاقي. فالمؤسسات الدينية، أياً كان شكلها أو موقعها، إن لم توقظ في الناس حسّ العدالة والرحمة، فإنها تفرغ رسالتها من معناها الحقيقي.
الدين في جوهره مشروع أخلاقي وإنساني، لا طقوسي فحسب. إنه نداء مستمر لإيقاظ الضمير ومواجهة الظلم والجهل. لكن حين تختزل رسالته في الطقوس، يغدو وسيلة لتسكين الوعي لا تحريكه. المسجد لا ينهض إلا بالإنسان، لأنه مرآة وعيه لا بديل عنه. فحين يبنى الإنسان على قيم الحرية والمسؤولية والعقل النقدي، يصبح كل مكان مسجدًا بمعناه الأصيل: ساحة للصدق والعمل والعدالة.
أما حين نقدس الجدران ونهمل الإنسان، يتحوّل الدين إلى شكلٍ بلا روح، وتغدو الأمة أكثر اهتمامًا بالزخارف منها بالمعرفة. والمجتمع الذي يستثمر في الرخام والزينة أكثر مما يستثمر في التعليم والبحث العلمي إنما يؤجل نهضته ويخفي ضعفه خلف واجهة براقة. ولهذا لم تتقدم الأمم بكثرة دور العبادة، بل بقدرتها على تحويل الإيمان إلى منظومة قيمٍ عملية: عدل، علم، حرية، ورحمة.
الإيمان الحقيقي لا يقاس بعدد المساجد، بل بقدرة المجتمع على أن يملأ الحياة عدلًا وإنسانية. فالله لا يسكن الجدران، بل يسكن في العقول التي تفكر، والقلوب التي تحب، والأيدي التي تبني. النهضة التي نحتاجها ليست معمارية، بل معرفية؛ لا تقاس بارتفاع المآذن، بل بارتفاع الوعي.
إن بناء الإنسان هو الشرط الأول لأي إصلاح ديني أو اجتماعي، لأنه يمنح الدين روحه، وللوطن كرامته، وللأخلاق معناها. أما حين نبني الحجر ونهمل الفكر، فإننا نشيد قبورًا للروح باسم القداسة. أمة تبني الإنسان تكتب مستقبلها، وأمة تكتفي بتكرار الشعائر تعيد إنتاج ماضيها.
فالإيمان الحقّ ليس طاعة عمياء، بل وعي حر ومسؤولية، والإنسان هو المسجد الأقدس الذي يبدأ منه كل بناءٍ حقيقي.