سليمان سليمان
في عالمٍ يزداد انقسامًا باسم الدين، يبدو من الضروري أن نعيد طرح الأسئلة الأولى: ما الدين؟ وما الإيمان؟ وهل ما نراه اليوم من مؤسسات دينية وصراعات مذهبية هو ما أراده الإله فعلاً؟
قد لا تكون هذه الأسئلة جديدة، لكنها تظلّ حيّة ما دام الإنسان يبحث عن معنى يتجاوز حدود الوجود المادي، وما دامت الحيرة ترافقه في رحلته نحو المطلق.
ليست الحيرة نقصًا في الإيمان، بل ربما تكون طريقه الأول. منذ أن رفع الإنسان رأسه نحو السماء وسأل: من نحن؟ ولماذا جئنا؟ بدأ يبحث عن معنى يحميه من وحدة الكون. فظهرت الأديان كجسور نحو الغيب، لكنها تكاثرت وتفرعت حتى صار الاختلاف بينها سببًا للخلاف بين البشر. وهنا يبرز سؤال لا يمكن تجاهله: لو كان الدين وحيًا إلهيًا خالصًا، فلماذا لم يكن واحدًا يجمع القلوب والعقول؟ أليس الإله، كما نؤمن، يدعو إلى السلام لا إلى الصراع؟
تاريخ الأديان يكشف أنها لم تكن مجرد رسائل سماوية، بل مرايا لوعي الإنسان في كل عصر. كل دين نشأ في بيئة محددة، استجاب لظروفها، وتحوّل مع الزمن، تمامًا كما تتطوّر الفلسفات والمدارس الفكرية. وكما يأتي الفيلسوف ليكمل أو يعيد قراءة من قبله، ظهرت الأديان لتعيد الصياغة بلغة عصرها، لا لتبدأ العالَم من الصفر.
الإيمان علاقة داخلية صافية بين الإنسان واللامتناهي، أما الدين المؤسسي فهو إطار اجتماعي نظمه البشر ليهتدوا ويضبطوا حياتهم، ثم تحوّل عبر الزمن إلى سلطة وقوانين وأعراف. ومع مرور الوقت، يبتعد الدين كـ”نظام” عن لحظة الصفاء الأولى التي وُلد منها، حين يصبح وسيلة نفوذ أكثر منه وسيلة فهم. فالمقدس حين يتحول إلى سلطة، يفقد شيئًا من نقائه الأول، لأن النصوص لا تتحرك وحدها، بل يفعّلها الإنسان بتأويله وموقعه في المجتمع. لذلك، يمكن للكلمة نفسها أن تكون نورًا في يد، وسلاحًا في يد أخرى.
قراءة الأديان كتجارب بشرية لا تنتقص من روحانيتها، بل تمنحها عمقًا. فالأديان كانت محاولات لفهم الغيب وتنظيم الحياة وبناء معنى. والسؤال الحقيقي الذي لا يفارق الإنسان منذ فجر الوعي: هل كنا نبحث عن الإله… أم عن الطمأنينة؟ عن الحقيقة أم عن ملجأ من عبث الوجود؟
ربما الإله، في جوهره، أبعد من كل ما دوّنته الكتب، وأقرب إلى ضمير الإنسان حين يختار الخير والعدل والجمال. الإيمان، في أصفى أشكاله، سؤال دائم لا يقين مغلق. فلا قداسة بلا حرية، ولا نور بلا بحث صادق. وربما ليس الهدف أن نجد دينًا كاملاً، بل إنسانًا يقترب من الحقيقة بصدق ويترك أثرًا من الرحمة في العالم.
فإن كان للإله مسكن يسع الكون كله، فمسكنه الأول والأعمق هو قلب الإنسان حين يتسع للآخر، ويتواضع في يقينه، ويحب قبل أن يحكم.
إن تحرّر الإيمان من سلطة الدين المؤسسي لا يعني نفي المقدّس، بل تحريره من احتكار البشر له؛ فالإله لا يُعرّف بالوصاية، بل يُدرك بحرية الوعي. والإيمان الذي يولد من العقل الحرّ، لا من الخوف، هو وحده القادر على أن يُنقذ الإنسان من عبادة الأوثان الجديدة: أوثان السلطة، والمذهب، والتأويل المغلق .