ثقافة التزلف.. مرض المجتمعات المأزومة بالسلطة

كفاح محمود

   رغم أن النظام السياسي في العراق يُفترض أنه ديمقراطي، وأن حرية التعبير والقضاء المستقل من ركائزه، إلا أن ظاهرة اللوگية – أي التملق والتدليس للمسؤولين – تفشّت بشكل غير مسبوق، حتى غدت سلوكًا عامًا وفنًّا اجتماعيًا تُمارسه شرائح متعددة من المجتمع، والمفارقة أن هذه الظاهرة كانت أقل انتشارًا في العهود الدكتاتورية، حين كان الخوف يبرّر الصمت أو النفاق، بينما اليوم تُمارس برغبة ووعي، وكأنها طريق مختصر للمكاسب والمنافع.

   من الناحية النفسية، تنبع “اللوگية” من شعورٍ بالنقص أو بالعجز أمام السلطة، ومحاولة تعويض هذا الشعور عبر التقرب المفرط والتزلف للمسؤولين، في بيئةٍ لم تترسخ فيها قيم المواطنة والمساواة، يصبح المديح المبالغ به وسيلة لإثبات الذات ونيل الاعتراف، أما اجتماعيًا، فالمجتمع العراقي – كسائر مجتمعات المنطقة – ما زال محكوماً بثقافة الهرمية الأبوية التي تقدّس صاحب السلطة، سواء كان شيخ عشيرة أو مسؤولًا حكوميًا، لذلك لم تختفِ مفردات مثل الباشا والزعيم والريس والآغا، بل عادت بأناقة جديدة تُزيَّن بها اللقاءات والاحتفالات، وتُرفَق بولائم وهدايا تُقدَّم كرموز ولاء ووسائل نفوذ.

   سياسيًا، تُعدّ “اللوگية” إحدى أدوات إدامة الفساد والزبائنية، إذ تحولت إلى لغة رسمية في العلاقة بين المواطن والمسؤول، فالمتملق يشتري رضى الحاكم، والمسؤول يغذّي هذه الثقافة ليستمد منها شرعيةً زائفة تعوّض فشله في الإدارة أو الإنجاز، بهذا الشكل، تتحوّل الديمقراطية إلى واجهةٍ شكلية تُدار بعقلية الإقطاع، حيث لا مكان للكفاءة ولا لقوة القانون، بل للمجاملات والولاءات الشخصية، ونتيجة لهذا السلوك، فقد المجتمع معاييره الأخلاقية والمهنية، وارتبك ميزان القيم بين الاستحقاق والتقرب، أصبحت الهدايا والولائم والتهاني الرسمية أدوات علاقات عامة، تُعطل مبدأ المحاسبة، وتحوّل المسؤول إلى صنمٍ صغير تحيط به جوقة من المصفقين والمادحين، ومع الوقت، تُصاب المؤسسات بالشلل، ويُهمّش الأكفاء، ويُكافأ المنافقون.

   تبدأ المعالجة من إعادة بناء الوعي الاجتماعي على أساس قيم المواطنة لا التبعية، وترسيخ ثقافة احترام المنصب لا الشخص، والنقد الموضوعي لا التبجيل، كما يجب تفعيل القوانين التي تمنع تضارب المصالح والرشوة المقنّعة بالهدايا والمآدب، والأهم هو إصلاح منظومة التعليم والإعلام، لتربية جيلٍ يعتز بذاته ويقدّر الإنجاز لا اللقب.

   في النهاية، اللوگية ليست مجرد سلوك بل مرض اجتماعي سياسي، يحتاج إلى علاج طويل يبدأ من تربية الضمير وينتهي بإصلاح النظام، فالأوطان لا تُبنى بالمجاملات، بل بالمواقف الصادقة، ولا تنهض بالشعارات والألقاب، بل بالعدالة والعمل الحقيقي.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…