نارين عمر
نؤكّد نحن الكرد على الدّوام على أنّ لغتنا الكردية هي هويتنا وإحدى مقوّمات استمرارنا وديمومتنا، لأنّنا ومنذ احتلال وطننا كردستان وحتى اليوم نعاني من مختلف أنواع الاضطهاد والظّلم ومحاولات طمس الهوية من قبل الجهات المحتلة لكردستاننا، ولكن وعلى الرّغم من محاولاتهم الجبّارة لإضعاف لغتنا وإرغامنا على عدم التّكلّم بها إلا أنّ كلّ هذه الممارسات من قبلهم تدفعنا إلى التّمسك بها وتحثّنا نحو التّكلم بها والحفاظ عليها على الرّغم من عدم وجود مدارس ومعاهد أكاديمية لتعلّم اللغة.
تعلّمنا أبجديتها ونحن أجنّة في رحم الأمّهات حيث كنّ يغزلن من رياض الفرح ألحان الطّمأنينة والانشراح على نول مشاعرهنّ بمفردات تتناغم مع رقة المعاني وانسيابها في أعماق الذّات والخاطر، ومن صخب حزنهنّ كنّ يهدهدن القلب والنّفس بتراتيل محفوفة بدموع العينين والقلب معاً.
بهذه المشاعر المجبولة من الفرح والحزن ومشتاقتهما نبتت في قلبي ومخيّلتي أزاهير عشقي للغتي الكردية، وعندما استضافتني أمّي في ربوع صدرها الأجمل من كلّ ربوع الطّبيعة وبقاع الكون بدأتُ أرتّل حروف أبجديتها من مداد صدرها الأبيض النّقي، وأعانق عذوبة معانيها الهائمة في فيافي كياني وهضاب ذاتي، ومع عناق الفصول للزّمن والزّمان بدأت قصّة عشقي مع لغتي تنضج وتزهر ثماراً للمحبّة والدّفء والسّلام.
في نشوة كلّ هذا وذاك وفي نعيم هذه العلاقة الحميمية بيني وبين لغتي ارتطمت علاقتنا بواقع أليم في لبوس كابوس مرير، حين انتسبت إلى الصّف الأوّل في مدرستي الابتدائية، هناك أدركت بدهشة واستنكار أنّه عليّ وزميلاتي وزملائي الكرد التّعلم بلغة أخرى والتّحدث بها، وكنّا نجهلها تماماً بأبجديتها، حروفها، معانيها وتعابيرها. لغة كنّا قد استمعنا إلى إحدى لهجاتها ” الأسخينية” من بعض جيراننا المسيحيين الذين كنّا نعيش في حارة واحدة، وكنّا تعلّمنا منهم ونفهم لهجتهم التي كانوا يتكلّمون بها مع بعضهم البعض ولكنّهم كانوا يتكلّمون معنا بلغتنا الكردية التي كانوا يتقنونها كلّ الإتقان. بكلّ تأكيد لم تشفع لنا هذه اللهجة في المدرسة لأنّها كانت مزيجاً من السّريانية والكردية والعربية، أمّا اللغة التي يجب أن نتعلّمها في المدرسة فهي اللغة العربية الفصحى والصّعبة جدّاً علينا آنذاك.
من حسن حظي أنّ أخي الأكبر كان وقتها يدرس اللغة العربية في جامعة حلب، وكانت أختي الكبرى قد تعلّمت الأبجدية العربية من خلال تعلّمها للقرآن وكذلك أخي الأصغر كان في المرحلة الابتدائية، ما ساعدوني على تعلّم الأبجدية العربية وتعلّمها، ولكن العامل الأبرز في تعلّمي لهذه اللغة وإتقانها كان تعلّمي لتلاوة القرآن وقراءته وأنا في الصّف الثّالث الابتدائي، ما جعلني أتقنها بشكل كبير وبذلك تلاشى خوفي منها تماماً.
كانت عائلتي حريصة كلّ الحرص على أن نتعلّم لغتنا الكردية إلى جانب العربية، وكان أخي عادل وقتها يتقن الكردية كتابة وقراءة، وكذلك أختيّ پريخان وفاطمة كانتا قد تعلّمتا الكردية بشكل ذاتي في البيت، فقد ساعدوني على تعلّم لغتنا والتعلّق بها كأفضل وأجمل لغة عندنا.
ما زاد من حبّنا للغتنا هو سماع عائلتنا المتواصل للأغاني والملاحم الكردية وللقسم الكردي في إذاعة بغداد وإذاعة الثّورة الكردية وإذاعة ايريڤان التي كانت قد خصصت وقتاً للأغاني والبرامج الكردية، بالإضافة إلى القصص والحكايات التي كنّا نسمعها من كبارنا من خلال الجلسات والسّهرات التي كانت تعقد في دارنا أو في ديار أهلنا وجيراننا.
كلّ ما سبق ذكره غرس حبّ لغتنا في فكرنا وقلبنا وكلّ جوارحنا، وعندما بدأت أحبو نحو عالم الأدب والكتابة الذي أحببته منذ صغري شجّعتني العائلة على أن أكتب بالكردية أيضاً على الرّغم من أنّ الإمكانيات اللغوية في الكتابة لدي لم تكن قد نضجت ولكنّني كتبت بها، وواظبت على تعلّم قواعدها والارتواء من مناهل مفرداتها ومعانيها منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا.
وأنا سعيدة بأنّ الكتب التي طبعتها وأصدرتها باللغة الكردية تفوق عدد التي أصدرتها باللغات الأخرى، وأتمنى أن أتمكّن من طباعة وإصدار كتب أخرى حاضراً ومستقبلاً.
من خلال إقامتنا في ألمانيا تمكّنت وبمساعدة اولادي وبعض الألمان الخيّرين من ترجمة مجموعة شعرية إلى الألمانية، وهم يقيمون لي بين الحين والآخر أمسيات أدبية وشعرية، أعرّفهم من خلالها بثراء ونضج وجماليات لغتنا، وكذلك تمكّنت وبمساعدة الدّكتور الفاضل صبحي حسين من ترجمة مجموعة شعرية إلى اللغة الانكليزية، كما تمّت ترجمة بعض أشعاري إلى الاسبانية والفرنسية كذلك.
ما أودّ الإشارة إليه بهذا الصّدد أنّ من حقّ كلّ شخص الكتابة باللغات التي يتقنها ويودّ الكتابة بها ولكنّ اللغة الأم تظلّ نبض كتابته وخفقان أوتار كلماته ومشاعره، وأتمنى حقاً لو يتقن كلّ كردي منّا كلّ لغات العالم ليكتب بها، وينقل مآثر وحضارة وواقع شعبنا الكردي إلى تلك الشّعوب والأمم وبلغاتهم.
…….