ماهين شيخاني
على مدى عقود، لم يغب شعار “سوريا دولة لكل أبنائها” عن الخطابات الرسمية. كان يُقال في المؤتمرات، ويُكتب في مقدمة الدساتير، ويُردّد في نشرات الأخبار. لكن السوريين، الذين عايشوا وجع الدولة من الداخل، يدركون أن هذا الشعار لم يتحوّل يوماً إلى حقيقة ملموسة. فالدولة التي يُفترض أن تحتضن الجميع، صارت في الواقع انعكاساً لسلطةٍ ضيّقة احتكرت القرار، ووزّعت الولاء بدل الكفاءة، وأقصت بدل أن توحّد.
تلك الفجوة بين الشعار والممارسة كانت، وربما ما زالت، جوهر الأزمة السورية. أزمة دولةٍ لم تعرف المساواة إلا ككلمة منمّقة في الخطب، لا كقيمة حاكمة في مؤسساتها.
أولاً: المساواة الغائبة من بنية الدولة
المشكلة في سوريا ليست في تنوّعها القومي أو الديني، بل في الطريقة التي تعاملت بها الدولة مع هذا التنوع. فمنذ قيام الجمهورية الحديثة، ظلت أجهزة الحكم تُدار بمنطق الولاء الأمني، لا بمنطق المواطنة.
من يحصل على المنصب ليس الأكفأ، بل الأقرب إلى مركز السلطة. ومن يُمثّل في البرلمان ليس الأجدر تمثيلاً، بل الأكثر قابلية للانضباط. بهذه الطريقة، جرى تهميش قطاعات واسعة من السوريين، حتى فقدوا الإحساس بالانتماء إلى دولةٍ تمثلهم جميعاً.
ثانياً: المساواة ليست بنداً مؤجلاً
في كثير من الأحيان، يُقال إن المساواة يمكن أن تنتظر “الاستقرار”. لكن الحقيقة معكوسة: لا استقرار بلا مساواة. فالأنظمة التي تميّز بين مواطنيها تُنتج أزماتٍ متتالية لا تهدأ.
إعادة بناء سوريا تبدأ من تعريف جديد للمواطنة المتساوية، حيث لا فضل لعربي على كوردي، ولا لمذهبٍ على آخر، ولا لولاءٍ سياسي على كفاءة. الشعب الكوردي، على وجه الخصوص، كان ضحية التهميش لعقود طويلة، ومع ذلك أثبت حضوره كمكوّن وطني قادر على المساهمة في بناء دولة عادلة ومتوازنة.
ثالثاً: التعددية ضمانة لا خطر
الاعتراف بالتنوع لا يُضعف وحدة الدولة، بل يحصّنها. التجارب الدولية من كندا إلى سويسرا تؤكد أن المجتمعات المتعددة يمكن أن تكون الأكثر استقراراً حين تُدار بشراكةٍ وعدالة. أما محاولات الإنكار أو الدمج القسري، فهي الوصفة الأكيدة للانفجار الداخلي.
القضية الكوردية، في هذا السياق، ليست قضية فئوية، بل قضية وطنية ترتبط بجوهر الإصلاح الدستوري وبمستقبل سوريا ذاتها. إن أي تسوية سياسية لا تعترف بهذه الحقيقة، ستبقى سطحية ومؤقتة.
رابعاً: من المركزية إلى اللامركزية العادلة
الدولة المركزية التي حكمت سوريا لعقود أثبتت فشلها في إدارة التعدد. إن التحول إلى نظام لامركزي ديمقراطي ليس تقسيماً للبلاد، بل تصحيح لمسارها. فحين تُمنح المحافظات صلاحياتٍ أوسع في إدارة شؤونها، ضمن إطار الدولة الواحدة، يُعاد توزيع السلطة بعدالة، ويشعر الناس بأنهم شركاء حقيقيون لا متفرجون على قرارات تُتخذ بعيداً عنهم.
هكذا فقط يمكن أن يصبح الشعار الشعبي الذي صدحت به حناجر السوريين في الساحات — “واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد” — أكثر من هتافٍ عاطفي. يمكن أن يتحوّل إلى مبدأ سياسي تُبنى عليه المؤسسات وتُصاغ الدساتير.
خامساً: عقد وطني جديد
سوريا الجديدة لا يمكن أن تُبنى بإعادة تدوير الماضي. المطلوب عقد وطني يعرّف الدولة من جديد بوصفها دولة مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. دولة لا تُدار من فوق، بل تُبنى من القاعدة الاجتماعية صعوداً. دولة تحمي الفرد لا تراقبه، وتخدم المجتمع لا تتحكّم به.
فالمساواة ليست شعاراً نزيّن به البيانات، بل مفتاح العدالة والاستقرار، وبوصلة الطريق نحو مصالحةٍ حقيقية بين السوريين أنفسهم.
سادساً: التحولات الإقليمية ودور الكورد في المعادلة المقبلة
الشرق الأوسط يعيش لحظة إعادة تموضع كبرى: تفاهمات بين واشنطن وموسكو، محاولات لخفض التوتر بين طهران والعواصم العربية، وتراجع تدريجي في نفوذ بعض القوى. هذه التحولات قد تفتح نافذة سياسية نادرة أمام السوريين لصياغة مشروع وطني جديد.
في هذه المعادلة، تبرز القوى الكوردية كفاعلٍ سياسي لا يمكن تجاوزه. فقد راكمت خبرة تنظيمية وإدارية خلال سنوات الحرب، وأثبتت أن المشاركة لا تعني الانفصال، بل تعزّز وحدة البلاد. إن إشراك الكورد في صياغة الدستور والعملية السياسية ليس منّة من أحد، بل استحقاق وطني تفرضه العدالة والواقع معاً.
خاتمة
لن تكون سوريا دولةً لكل أبنائها ما لم يشعر الكوردي والعربي والآشوري والمسلم والمسيحي والايزيدي والدرزي ووو الخ. بأنهم متساوون أمام القانون وفي الفرص والمسؤوليات.
حين تُبنى الدولة على العدالة والمواطنة المتساوية، لا على الخوف والولاء، يمكن لسوريا أن تنهض من رماد الحرب، لا كدولة نجت بالصدفة، بل كأنموذجٍ جديد للعيش المشترك في الشرق الأوسط — دولة يتردد فيها الشعار الشعبي القديم، لا كهتافٍ احتجاجي، بل كحقيقة دستورية:
“واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد.”