سليمان سليمان
منذ أن بدأت دوامة التغيير في سوريا، ظل السؤال الأعمق بلا جواب:
هل تغيّر النظام فعلًا، أم تغيّر شكله فقط؟
فبعد كل التضحيات والدماء، يجد السوري نفسه اليوم في واقع لا يقل قسوةً عن الأمس، بل أشد مرارةً منه، لأن الخيبة هذه المرة جاءت بعد الأمل.
تحت راياتٍ مختلفة وأسماءٍ متعددة، ولدت سلطات جديدة، تتحدث باسم الثورة حينًا وباسم الدين حينًا آخر، لكن النتيجة واحدة: وطنٌ يتآكل، وشعب يزداد تيهًا، ودولةٌ تتفكّك تحت وطأة الولاءات المتعددة.
خرجت سوريا من تحت قبضة دكتاتورٍ واحد، لكنها وجدت نفسها غارقة في دكتاتورياتٍ متعددة، أكثر بطشًا وتخلّفًا.
فرح الناس يومًا حين ظنوا أن الشمس أشرقت أخيرًا، وأن فجر الحرية بزغ بعد عقودٍ من القهر، لكنهم اكتشفوا سريعًا أنهم يرقصون على أطلال وطنٍ يتهاوى، وأنهم يغنون لمصيرٍ مجهولٍ مليءٍ بالمآسي.
النظام الذي كان يستبد باسم “الوطن” سقط جزئيًا، لكن من رماده ولدت سلطاتٌ جديدة تمارس القهر ذاته باسم “الدين أو “الثورة أو الهوية.
تغير الشعار، وتبدل الخطاب، لكن المضمون بقي واحدًا: سلطةٌ تبحث عن الطاعة، لا عن العدالة.
نعم تغيرت الوجوه وسقطت الصور القديمة وتبدلت الشعارات، لكن الجوهر بقي كما هو.
ذهب نظام كان يستبد باسم الوطن، وجاء آخر يستبد باسم الدين، وفي الحالتين يختبئ القمع خلف شعاراتٍ زائفة تبرر السلطة وتخمد الأسئلة.
الأول كان يطلب منك أن تسكت لتبقى آمنًا، والثاني يريدك أن تؤمن لتبقى تابعًا.
والنتيجة واحدة: مواطن مسحوق، وبلد ممزق، وفقرٌ وذل يعلوان على كل شيء.
سوريا اليوم ليست دولةً تنهض من رمادها، بل جثةٌ تتقاسمها سلطاتٌ متناحرة، تتغذّى على الخراب، وتتنافس في الولاء للخارج أكثر مما تتنافس على خدمة الداخل.
رحل نظامٌ، لكن أنظمةً أخرى وُلدت من رماده، أشدّ ظلامًا وأعمق جهلًا، لأنّها بلا مشروعٍ وطني، وبلا رؤيةٍ تتجاوز مصالح السلاح والمال.
لقد تحول حلم السوريين بالحرية والعدالة إلى كابوسٍ دائم، ووجد الناس أنفسهم بين مطرقة الفقر وسندان القمع.
لم تعد المشكلة في من يحكم، بل في غياب مفهوم الدولة نفسها، وغياب الإيمان بإنسانٍ حرّ يملك قراره ويصنع مصيره.
سوريا لا تحتاج إلى سلطةٍ انتقاليةٍ جديدة، ولا إلى فصيلٍ آخر يرفع شعارًا مختلفًا،
بل إلى وعيٍ وطنيّ صادق يدرك أن الحرية لا تُمنح من الخارج، ولا تُفرَض بالبندقية،
بل تُبنى بالوعي، بالعقل، وبإرادة إنسانٍ يعرف أن كرامته لا تُشترى ولا تُؤجَّل.
لقد تغيّر الشكل، لكن المضمون بقي نفسه: القمع هو القمع، والفساد هو الفساد، والجهل نفسه يلبس ثوبًا جديدًا.
ما تبدّل سوى الأسماء والرايات، أما الإنسان السوري فبقي الضحية الدائمة في لعبةٍ لا تنتهي.
وفي النهاية، وسط هذا الركام، لم يعد الشعب يطالب بالكثير…
صار أقصى ما يتمناه أن يعيش يومه بسلام، أن يجد لقمةً تسدّ جوعه، وأن ينام دون أن يسمع صوت قذيفةٍ هنا أو صرخة معتقلٍ جديد هناك .
وحتى يعي السوريون أن الحرية ليست شعارًا يُرفع، بل مسؤولية تُمارس، ستبقى البلاد رهينة بين دكتاتورٍ راحل ودكتاتورياتٍ صاعدة.
ولم يعد السؤال: من يحكم سوريا؟ بل: هل ما زالت هناك دولة تُحكم أصلًا؟
فالدولة، بمعناها السياسي والمؤسسي، غابت خلف شبكات مصالح وولاءات مناطقية وطائفية، تكرّس الانقسام بدلًا من الوحدة، وتغذّي اليأس بدلًا من الأمل.
وهكذا أصبح القرار السوري مرتهنًا لمن يموّل أو يسلّح، لا لمن يفكّر أو يبني.