صلاح عمر
بين تعقيدات السياسة الدولية وتحوّلات الميدان السوري، يلوح مشروع القرار الأمريكي الجديد في مجلس الأمن كإعادة تعريفٍ لمفهوم الحلّ، لا كإلغاءٍ للقرار 2254، بل كتحديثٍ له يواكب التحوّلات التي فرضها الزمن، والدم، وصوت الشعوب الباحثة عن العدالة.
منذ صدور قرار مجلس الأمن رقم 2254 في الثامن عشر من كانون الأول عام 2015، اعتُبر هذا القرار المرجعية السياسية الأهم لمسار الحل في سوريا، إذ رسم معالم مرحلة انتقالية نحو نظام ديمقراطي تعددي، يقوم على هيئة حكم انتقالية جامعة تُمنح صلاحيات تنفيذية كاملة، ويُفترض أن تُشكَّل بالتوافق بين النظام والمعارضة، وتدير البلاد حتى إجراء انتخابات حرة بإشراف الأمم المتحدة خلال ثمانية عشر شهرًا. كما نص القرار على وقف إطلاق النار الشامل واستثناء التنظيمات الإرهابية منه، وعلى صياغة دستور جديد يُعبّر عن تطلعات السوريين جميعًا دون تمييز قومي أو طائفي.
لكنّ السنوات العشر الماضية حوّلت القرار إلى وثيقة مؤجّلة، أُفرغت من مضمونها بفعل الصراع الدولي والإقليمي، وبتعطيلٍ ممنهج من النظام السوري الذي رفض أي انتقال فعلي للسلطة. ومع تبدّل موازين القوى وسقوط النظام عمليًا، تعود واشنطن اليوم إلى مجلس الأمن عبر مشروع قرار جديد قُدّم في 7 تشرين الأول 2025، لا لدفن القرار 2254، بل لإعادة صياغته بما يتناسب مع الواقع السوري الجديد، عبر أدوات تنفيذية واضحة تشارك فيها الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا.
المشروع الأمريكي يُعيد رسم خريطة العملية السياسية من جذورها. فهو يعتبر أن الطرف الفاعل في المرحلة الانتقالية لم يعد النظام، بل “القيادة الانتقالية” برئاسة أحمد الشرع، إلى جانب المعارضة المدنية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). هذه الصياغة تُنهي معادلة “النظام والمعارضة” القديمة، لتُعلن ولادة مفهوم جديد هو “القيادة الانتقالية والمكونات الوطنية”، ما يعكس إقرارًا صريحًا بأن سوريا لم تعد أحادية البنية السياسية، بل باتت فسيفساء وطنية تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد.
كما يقترح المشروع إشرافًا دوليًا موسّعًا على المرحلة الانتقالية، من خلال لجنة رقابة تضم الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، وفرنسا، وتركيا، تتولى مراقبة وقف إطلاق النار وتنفيذ بنود الدستور والانتخابات. وللمرة الأولى، يُمنح المبعوث الأممي صلاحيات تنفيذية جزئية، تتجاوز دوره التنسيقي التقليدي، بما يتيح تحريك العملية السياسية خارج دائرة الفيتوهات المتبادلة.
إحدى أهم النقاط الجوهرية في المشروع هي إدراج ضمانات دستورية للمكونات السورية، وفي مقدمتها الاعتراف الصريح بالمكوّن الكردي كمكوّن وطني أصيل، وإلزام الحكومة الانتقالية بتطبيق مبادئ التعدد الثقافي واللغوي في مؤسسات الدولة قبل إجراء الانتخابات. هذه الخطوة لا تعبّر فقط عن استجابة للوقائع الميدانية في شمال وشرق سوريا، بل عن تحوّل جذري في النظرة الدولية إلى المسألة الكردية، بوصفها قضية وطنية لا ملفًا أمنيًا.
ويذهب المشروع أبعد من ذلك في تفكيك إرث الأجهزة القمعية، إذ يدعو إلى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية تحت إشراف دولي مباشر، مع دمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن وزارتي الدفاع والداخلية في الحكومة الانتقالية، بما يضمن توازنًا وطنيًا وعدالة تمثيلية تمنع عودة الدولة الأمنية.
أما على صعيد الانتخابات، فقد حافظ المشروع على المدة الزمنية (18 شهرًا)، لكنه أضاف آليات أممية صارمة للرقابة وضمان النزاهة، وفرض معايير تمنع ترشح أي شخصية متورطة بجرائم حرب أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. كما يشترط إشراك السوريين في الخارج، باعتبارهم جزءًا من الكتلة الوطنية التي دُفعت إلى المنفى القسري.
وفي خطوة لافتة ذات بُعد إنساني واقتصادي، يقترح المشروع رفعًا جزئيًا للعقوبات عن المؤسسات المدنية في مناطق الحكومة الانتقالية، لتسهيل وصول المساعدات والاستثمارات، في حين تُبقي العقوبات على الأفراد والكيانات المتورطة في الفساد أو تمويل الإرهاب. إنها محاولة واضحة لتمييز “سوريا الجديدة” عن سوريا النظام، ولفتح نافذة أمل اقتصادية تخفف من كارثة العقوبات الشاملة.
اللافت أن تنفيذ هذا المشروع سيجري تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما يعني أنه سيحظى بآلية إلزام دولية تضمن تطبيقه، وتمنع الأطراف المعطِّلة من إفشاله كما حدث مع القرار 2254. وإذا ما تم تبنيه رسميًا، فسيُشكّل منعطفًا تاريخيًا في مسار الأزمة السورية، وقد يفتح الطريق نحو تسوية حقيقية تُنهي عقدًا من المأساة.
إنّ القراءة العميقة لهذا المشروع تكشف أنه لا يحمل روح الوصاية الدولية بقدر ما يسعى إلى إنتاج واقعٍ سياسي سوري جديد، متوازنٍ ومتعددٍ وعادل. مشروع يضع حدًّا لاحتكار السلطة، ويمنح للمكوّنات القومية والدينية موقعها المستحق في الدولة، دون أن يفكك وحدة البلاد. وهو بذلك لا يعيد فقط تعريف مفهوم “الحكم الانتقالي”، بل يستعيد جوهر الثورة السورية الأول: الحرية والكرامة والعدالة.
قد يراه البعض مشروعًا طموحًا، وقد يرفضه آخرون خوفًا من التغيير، لكن الحقيقة تبقى أنّ سوريا لم تعد تحتمل مزيدًا من الدماء أو الانتظار. وأنّ إقرار هذا المشروع وتنفيذه تحت البند السابع، قد يكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما تبقّى من الوطن، وتجنيب السوريين مصيرًا أكثر ظلمة ودمارًا.