الجنرال مظلوم عبدي وأحمد الشرع: عقدة الدمج والدستور ورهان المصالحة الوطنية

أزاد خليل* 

في لحظة تتقاطع فيها الجغرافيا مع التاريخ، وتتشابك فيها الذاكرة السورية المثقلة بالحرب مع آمال بناء وطن جديد، يبرز لقاء مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وأحمد الشرع، رئيس السلطة الانتقالية في دمشق، كحدث يتجاوز السياسة اليومية نحو إعادة تعريف معادلة القوة والدولة في سوريا.

ليس اللقاء مجرّد مصافحة شكلية بين طرفين متنافرين، بل لحظة مواجهة بين مشروعين متوازيين: مشروع الدولة المركزية التي تبحث عن استعادة السيطرة، ومشروع الإدارة الذاتية التي تطمح إلى شراكة حقيقية في القرار والمصير.

 

في 10 آذار/مارس 2025، تم الإعلان عن اتفاق مبدئي بين الطرفين تضمن بنودًا طموحة: دمج مؤسسات قسد المدنية والعسكرية في مؤسسات الدولة، نقل السيطرة على المعابر والمطارات وحقول النفط والغاز إلى الحكومة المركزية، وضمان إدراج حقوق الكرد في الدستور الجديد، إلى جانب وقف إطلاق نار شامل.

ورغم الزخم الإعلامي الذي رافق الاتفاق، فإن كثيرين وصفوه بأنه خطوة على حافة الهاوية؛ إما أن يقود إلى وحدة وطنية متجددة، أو أن يتحول إلى نسخة أخرى من اتفاقات لم تُنفَّذ.

 

القائد مظلوم عبدي أعلن عقب التوقيع أن “الدمج لا يعني الذوبان”، وأن القوات الأمنية الكردية (الآسايش) ستدخل ضمن وزارة الداخلية السورية ولكن ضمن صيغة تحفظ خصوصية مهامها المحلية. كما دعا إلى “نص دستوري واضح يعترف بالحقوق القومية والثقافية للكرد، ويكفل مبدأ الإدارة اللامركزية المتوازنة”.

في المقابل، شدّد أحمد الشرع في خطابه الرسمي على أن “الجيش السوري هو الضامن الوحيد لوحدة البلاد وسيادتها”، وأن دمج قسد في صفوفه سيكون “على أساس الانضباط الوطني، لا الانتماء الفصائلي أو المناطقي

 

بين الموقفين، تتبدّى عقدة الدمج كأكثر الملفات حساسية. فدمشق ترى في اللامركزية تهديدًا لتماسك الدولة، بينما ترى الإدارة الذاتية فيها ضمانة لعدم العودة إلى الاستبداد المركزي. وهنا يظهر الخلاف الحقيقي: ليس على من يسيطر على الأرض، بل على من يملك القرار في صياغة مستقبل البلاد.

 

أما الملف الدستوري، فيُعتبر ساحة الصراع الأكثر عمقًا. الدستور المؤقت الذي طرحته السلطة الانتقالية في 13 آذار 2025، وإن تضمّن إشارات إلى “المساواة بين المواطنين”، فإنه لم يتطرق صراحة إلى الهوية الثقافية الكردية أو إلى مبدأ اللامركزية. لذلك طالبت قسد بتعديلات تُقرّ باللغتين العربية والكردية كلغتين رسميتين في المناطق ذات الغالبية الكردية، وتضمن مشاركة عادلة في مؤسسات الدولة وإدارة الموارد المحلية بشفافية.

هذه المطالب، وإن بدت منطقية في سياق العدالة الوطنية، تصطدم بعقل سياسي مركزي يرى أن الاعتراف بالخصوصيات القومية قد يفتح الباب أمام التفكك.

 

على الأرض، ما زالت المسائل التقنية معقدة: من سيقود العمليات العسكرية في الشرق؟ كيف سيُدمج آلاف المقاتلين ضمن هيكل الجيش السوري؟ من سيتحكم بالموارد الاقتصادية الكبرى في دير الزور والحسكة والرقة؟

دمشق تعتبر أن السيادة لا تتجزأ، فيما تطالب الإدارة الذاتية بتوزيع عادل للثروة يضمن تنمية المناطق التي عانت التهميش لعقود. وبين الخطابين، تلوح احتمالات صدام صامت بين أجهزة الدولة القديمة وإرادة المجتمعات الجديدة التي نشأت في ظل الحرب.

 

لكن المسألة تتجاوز الأمن والدستور إلى الاقتصاد والمصالحة الوطنية.

فنجاح أي تسوية مرهون بإطلاق مشروع اقتصادي متكامل يربط الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، ويحوّل الثروات المحلية إلى رافعة وطنية، لا إلى أداة ابتزاز سياسي.

في المقابل، فإن إعادة الإعمار دون إصلاح سياسي وعدالة انتقالية لن تُعيد الثقة بين المواطن والدولة.

 

ملف عودة المهجرين واللاجئين يطرح تحديًا آخر. فالملايين الذين نزحوا إلى الخارج أو إلى الداخل لن يعودوا إلى بلد يُعيد إنتاج الإقصاء أو يكرّس الانقسام. إنهم بحاجة إلى ضمانات دستورية وقانونية تحميهم من الانتقام أو التمييز، وإلى بنية تحتية وخدمات قادرة على استيعابهم.

عودة اللاجئين يجب أن تكون فعل ثقة لا دعاية سياسية، وهذا لا يتحقق إلا حين يشعر الجميع بأن سوريا الجديدة تتسع لهم بلا استثناء.

 

في خضم ذلك، تتصاعد الدعوات إلى مصالحة وطنية شاملة، لا تقوم على عفو متبادل أو صفقات آنية، بل على اعتراف متبادل بالمسؤولية وفتح صفحة جديدة من المواطنة المتساوية.

يرى مراقبون أن لقاء عبدي والشرع هو أول اختبار حقيقي لمدى استعداد السوريين — سلطة ومعارضة ومجتمعًا مدنيًا — لتجاوز جراحهم، وبناء عقد اجتماعي جديد يضمن مشاركة جميع المكونات من عرب وكرد وسريان وتركمان وأرمن في صياغة مستقبل الدولة.

 

ومع أن اللقاء بدا كأنه خطوة نحو دمشق أكثر منه نحو حلّ شامل، إلا أن رمزيته تظل عميقة. فوجود قائد كردي قاتل “داعش” إلى جانب رئيس انتقالي يمثل السلطة المركزية يعني اعترافًا ضمنيًا بأن لا حلّ في سوريا دون الأكراد، ولا استقرار دون وحدة الجيش.

 

لكن التحدي الحقيقي يبدأ الآن: تنفيذ ما تم التوقيع عليه.

فبدون لجان مشتركة حقيقية، وضمانات زمنية واضحة، ومراقبة دولية محايدة، قد يتلاشى الحلم كما تلاشت اتفاقات جنيف وأستانة وسوتشي.

إن ما يميّز هذه المرحلة هو إدراك متزايد بأن الزمن لم يعد في صالح أحد — لا المركز ولا الأطراف — وأن استمرار الجمود يعني انهيار ما تبقى من الدولة والمجتمع معًا.

 

في نهاية المطاف، يختصر لقاء مظلوم عبدي وأحمد الشرع معادلة سوريا الراهنة: بين الدولة التي تبحث عن البقاء، والمجتمع الذي يبحث عن الاعتراف.

قد ينجح الاتفاق في فتح بوابة الوحدة الوطنية، أو يفشل فيتحول إلى فصل جديد من فصول الخيبة. لكن المؤكد أن التاريخ لن يرحم أحدًا إن أضاع فرصة السلام الأخيرة.

 

سوريا اليوم تقف عند مفترق طرق؛

إما أن تنتقل من منطق الغلبة إلى منطق الشراكة،

وإما أن تعود إلى دوامة الانقسام التي أحرقت أبناءها لعقدٍ من الزمان.

 

وبين مظلوم عبدي وأحمد الشرع، تتجسد صورة سوريا التي تتصارع داخل نفسها: نصفها يحرس الحدود، ونصفها يحلم بدستور يفتح الحدود نحو المستقبل.

الدمج قد يكون بداية وحدة جديدة — أو بداية صراع مؤجل — لكن المؤكد أن الزمن السوري القادم لن يشبه ما قبله

 

*كاتب وباحث سياسي 

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…