ياسر بادلي
في المشهد السوري المتغير، حيث تتلاشى خارطة النفوذ القديم، ويُعاد رسم مناطق التأثير من جديد، يقف الكرد مرة أخرى في عين الإعصار، لا كضحايا كما اعتادهم التاريخ، بل كمحور في معادلة جيوسياسية جديدة تُخاض فيها المعارك بصمت، وتُرسم الحدود بلا قنابل. فما بين انسحاب روسي جزئي، وتراجع إيراني مدروس، وانكفاء خليجي يركّز على الاقتصاد لا على الصراع، تتسابق المشاريع فوق الأرض السورية، لتترك الكرد أمام لحظة مصيرية لا تحتمل الغفلة.
تركيا، التي تحاول عبر مشروع “الميثاق الملي” إعادة نفوذها العثماني بزيّ قومي معاصر، لا تنظر إلى الكرد في سوريا كجار أو مكوّن، بل كعدوى. العدوى التي تخشى أن تتسرّب إلى جسدها الداخلي المثقل بالمكونات. فهي تعلم أن الاعتراف بالإدارة الذاتية في الشمال السوري، ولو جزئيًا، سيفتح شهية الكرد داخلها على ذات المطالب، وسيوقظ ذاكرة العلويين، والسريان، والمسيحيين، وغيرهم ممن دُفنت هوياتهم تحت وهم الأمة الواحدة. لهذا، فإن كل خطاب تركي تجاه الأكراد، سواء أكان ترغيبًا بلغة السلام أو تهديدًا بلغة الحديد والنار، لا يُمكن فصله عن استراتيجية احتواء “الداء الكردي”، ومنعه من التحول إلى فيروس سياسي واجتماعي في الداخل التركي.
في الجهة الأخرى، تبرز إسرائيل كمشروع مضاد، ليس فقط ضد التمدد الإيراني، بل أيضًا لتكريس حضورها في قلب الشرق الأوسط عبر ما يُعرف بـ”ممر داوود”، الذي يمتد نظريًا من حدود كردستان العراق مرورًا بشرق الفرات وصولًا إلى المتوسط. هذا الممر، أكثر من مجرد طريق بري، إنه شريان سياسي واستراتيجي، يسمح لإسرائيل بالخروج من خنادق الأمن إلى فضاء التأثير. ولهذا فهي تسعى إلى بناء تحالف مع المكونات التي لطالما طُردت من المعادلات الكبرى: الكرد، السريان، العلويون، الشيعة غير الصفويين، والمهمشون العرب.
تركيا تخشى من هذا التحالف أكثر من خوفها من جيوش، لأنها تعلم أن أي كيان كردي متماسك، مدعوم بتحالف إقليمي غير تقليدي، سيكون نذير تقسيم داخلي. خاصة وأن النموذج الكردي في سوريا قد يتحول إلى مرآة قاتلة لأنقرة، التي تضم في داخلها ما لا يقل عن ثلث سكانها من الكرد، وملايين من العلويين والمكونات الأخرى، ممن لا زالوا ينتظرون فرصة لإعادة تعريف وجودهم.
في هذا السياق، يجد الأكراد أنفسهم أمام نارين، كلتاهما محرقة إن لم تُدار بذكاء. فالسلام الذي تعرضه تركيا ليس سوى استسلام ناعم: تفكيك قوات سوريا الديمقراطية، إنهاء الإدارة الذاتية، والقبول بما يشبه الحكم الإداري المحدود بلا قرار ولا سيادة. أما التحالف مع إسرائيل والمكونات الأخرى، فهو طريق يحمل معه فرصًا عظيمة، لكنه مليء بالمخاطر والتحديات، وقد يفتح الباب لصراعات لا تُبقي ولا تذر، إذا لم يكن خلفه دعم دولي متين واستعداد شعبي شامل.
لكن السؤال الحقيقي ليس: “أي طريق نسلك؟”، بل: “هل علينا أن نختار الآن؟”. الحكمة تقتضي ألّا يوضع كل البيض في سلة واحدة. فالتاريخ لا يرحم المتسرعين، ولا ينتصر للخائفين. لذلك، ربما تكون الخطوة الأذكى الآن هي السير على الخيط المشدود، بالحفاظ على خطوط الاتصال مفتوحة مع أنقرة، تفاديًا لأي مواجهة عسكرية مدمّرة، مع تثبيت التحالف مع المكونات الداخلية وإسرائيل، دون إعلان القطيعة مع دمشق أو الأطراف الدولية الفاعلة. إنها لعبة توازن دقيقة، ولكنها ضرورة استراتيجية.
هذه المرة، لن يكون هناك وقت لتجريب الفشل. إما أن يفكر الكرد بعقل الجغرافيا لا بعاطفة الضحية، أو يسقطوا مرة أخرى ضحية مشاريع أكبر منهم. هناك ممر يُفتح اسمه “داوود”، وقد لا يُفتح مرة أخرى. هناك فرصة لتكون كردستان لاعبًا، لا ورقة، وقد لا تتكرر.
ختامًا: هذه المرة… لن نبقى في العتمة. من تحت ركام الإسلام السياسي ومن بين أسنان العسكر الطوراني، قد يرى الكرد نوراً جديداً عبر ممر داوود. لم يجلب لهم التاريخ الديني غير السبي، ولم يمنحهم النظام القومي غير الإلغاء. واليوم، ثمة بارقة تقول: من لم يمشِ في ممر داوود، سيسقط في حفرة أنقرة.