صلاح عمر
سؤالٌ يطرح نفسه بقوة في المشهد السياسي الكردي السوري: هل لقاء الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع مع قيادة المجلس الوطني الكردي يهدف إلى نسف مخرجات كونفرانس القامشلي، ذلك المؤتمر الذي بُنيت عليه آمال كبيرة في لمّ شمل الصف الكردي وتوحيد الموقف القومي والسياسي؟ أم أن الأمر أعمق من مجرد قراءة ضيقة، ليتعلق بمسار العملية السياسية في سوريا وضرورة حضور الكرد فيها كفاعلٍ أساسي لا يمكن تجاوزه؟
إن الدعوة التي وجّهها الشرع إلى المجلس الوطني الكردي لا يمكن النظر إليها بمعزل عن التطورات التي تعصف بالمنطقة، ولا عن محاولات القوى الإقليمية والدولية رسم مستقبل سوريا وفق خرائط مصالحها. فحضور الكرد، كأحد أقدم المكونات على هذه الأرض، ضرورة لا خياراً، وحوار المجلس مع الشرع في دمشق ليس خروجاً عن السياق، بل اختبار لإمكانية تحويل الحضور الكردي إلى واقع سياسي يعكس إرادة شعب طالما عانى من التهميش والإنكار.
لكن في المقابل، ثمة أصوات رأت في هذا اللقاء تهديداً مباشراً لمخرجات كونفرانس القامشلي. إذ كيف يمكن أن يتماشى التفاوض المنفرد مع الشرع مع ما اتفق عليه الكرد في القامشلي من تشكيل لجنة تفاوضية موحدة تمثل الجميع أمام دمشق؟ هذا التساؤل مشروع، غير أن الرد عليه يقتضي النظر بعمق إلى المشهد الكردي ذاته: فهل لقاءات قسد ومسد وحزب الاتحاد الديمقراطي مع الشرع لم تكن، بدورها، تجاوزاً لمخرجات الكونفرانس؟ أليس من التناقض أن يُعتبر لقاء المجلس الوطني وحده “نسفاً”، بينما تُمرَّر اللقاءات الأخرى باعتبارها أمراً طبيعياً؟
هنا يطل سؤال آخر: ما طبيعة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي ومنظومته (قسد، مسد، والإدارة الذاتية)؟ هل هو مشروع قومي كردي بالمعنى التقليدي، أم مشروع وطني سوري يتجاوز الإطار القومي؟ الإجابة جاءت على لسان قادة هذه المنظومة أنفسهم، حين أكدوا أن مشروعهم وطني سوري بالدرجة الأولى، وليس مشروعاً قومياً كردياً. هذا الإعلان الواضح يضع الأمور في نصابها: المجلس الوطني الكردي، بما يمثله من امتداد للحركة القومية الكردية وكجزء من المشروع القومي الكردستاني بقيادة الرئيس مسعود البارزاني، هو الإطار الأقرب إلى التعبير عن الهوية القومية للكرد في سوريا.
بناءً على ذلك، فإن لقاء المجلس الوطني مع الشرع لا يمكن أن يُختزل باعتباره خطوة لإضعاف الكونفرانس، بل قد يكون محاولة لتثبيت موقع الكرد في العملية السياسية السورية، خاصة إذا جرى اللقاء على قاعدة أن لجنة التفاوض الكردية المنبثقة عن الكونفرانس هي صاحبة الحق الشرعي في تمثيل الكرد رسمياً أمام النظام والمعارضة على السواء.
لقد أدخل كونفرانس القامشلي فرحة وأملاً إلى قلوب ملايين الكرد، ليس في كردستان سوريا وحدها بل في عموم أجزاء كردستان والمهجر. كان بمثابة إعلان أن الكرد قادرون، رغم الجراح والانقسامات، على توحيد كلمتهم متى اقتضت المصلحة القومية ذلك. من هنا فإن أي خطوة سياسية، سواء لقاء الشرع بالمجلس أو تفاهمات قسد ومسد مع دمشق، يجب أن تُقرأ من زاوية المصلحة العليا للقضية الكردية، لا من زاوية التنافس الضيق بين الأطر.
والقضية الكردية في سوريا ليست قضية هامشية ولا ملفاً ثانوياً. إنها قضية شعب يعيش على أرضه التاريخية منذ آلاف السنين، قضية هوية وحقوق ووجود. وبالتالي، فإن تمثيل هذا الشعب لا يمكن أن يكون منقوصاً أو مشوهاً، بل يجب أن يستند إلى إطار قومي راسخ يعكس إرادته. وهنا يبرز المجلس الوطني الكردي كخيار واقعي وشرعي، لأنه امتداد طبيعي للحركة القومية الكردية، وامتثال للمشروع الكردستاني الأوسع الذي يقوده المناضل مسعود البارزاني، رمز الدفاع عن الهوية والحقوق الكردية.
إن السؤال الجوهري اليوم ليس: هل لقاء المجلس مع الشرع نسف للكونفرانس؟ بل: كيف يمكن تحويل هذا اللقاء، وأي لقاء آخر، إلى فرصة لتكريس حضور الكرد كطرف رئيسي في صياغة مستقبل سوريا؟ فاللقاءات والتفاهمات لن تفيد ما لم تُترجم إلى موقع تفاوضي موحّد، يفرض نفسه في المحافل الوطنية والإقليمية والدولية.
إننا أمام لحظة مفصلية: إما أن يكون الكرد لاعباً مؤثراً يفاوض من موقع الشريك الذي لا غنى عنه، أو أن يتحولوا إلى مجرد أوراق تفاوضية بيد الآخرين. وفرق كبير بين من يقرر مصيره بيده ومن يُترك لمصائر تُرسم بعيداً عنه.
لذلك، فإن اللقاء المرتقب بين الشرع والمجلس الوطني الكردي، إذا جرى في إطار المصلحة القومية العليا، لن يكون خطأً بل فرصة. أما الخطأ الحقيقي، فهو أن نسمح بانقسام الصف الكردي مجدداً، أو أن نضيّع ثمرة كونفرانس القامشلي التي أفرحت أبناء شعبنا جميعاً. فالوعي القومي يفرض أن يكون التفاوض مع دمشق، أو مع أي طرف آخر، من خلال لجنة تفاوضية موحّدة تمثل كل الكرد، وتحمل تفويضاً حقيقياً من شعبنا.
إننا، في النهاية، أمام قضية عادلة ومشروعة. قضية لا تختصرها المؤتمرات ولا اللقاءات، بل تختصرها إرادة شعب يريد أن يعيش حراً على أرضه التاريخية، وأن يكون له تمثيل قومي وسياسي وإداري في المحفل السوري، إلى جانب حضوره الإقليمي والدولي. ومن هنا يمكن القول بوضوح: المجلس الوطني الكردي، برصيده القومي وعمقه الكردستاني، هو الإطار الأقرب إلى التعبير عن صوت هذا الشعب، وهو المؤهل لأن يكون حجر الزاوية في أي عملية تفاوضية ترسم ملامح سوريا المستقبل.