عبدالجابر حبيب
منذ أن وُلدت الدولة الحديثة في منطقتنا، بقيت أسيرة المركز، كأنّ العاصمة قلبٌ ضخم يبتلع كل الدماء ولا يعيد توزيعها على الأطراف. المدن البعيدة ظلت تنتظر أن تسمع نبضها في مشاريع تنمية أو خدمات عادلة، لكن النبض لم يصل. من هنا، كان لا بد أن يُطرح سؤال اللامركزية: كيف يمكن للبلاد أن تبقى موحّدة، وفي الوقت نفسه تمنح كل منطقة حقها في إدارة شؤونها؟
—
وجوه اللامركزية
اللامركزية ليست وجهاً واحداً، بل هي أشبه بمرآة لها انعكاسات متعددة:
اللامركزية الإدارية: حيث تُمنح البلديات والمجالس المحلية صلاحيات لإدارة المدارس والمياه والكهرباء والطرق…..كافة المؤسسات الخدمية.
اللامركزية السياسية: حيث تذهب الأمور أبعد، فيكون للإقليم برلمانه الخاص وحكومته وقوانينه، كما نرى في الدول الفدرالية.
اللامركزية الديمقراطية: صيغة أكثر قرباً من الناس، تقوم على إشراكهم مباشرة عبر المجالس المنتخبة والهيئات الشعبية، لتتحول القرارات من شأن نخبوي مركزي إلى شأن تشاركي يشارك فيه الجميع.
—
الفرق بين السياسي والديمقراطي
هنا يلتبس الأمر على كثيرين. فاللامركزية السياسية تعني ببساطة “تقاسم السلطة بين المركز والأقاليم” وقد تتحول إلى مشروع فدرالي أو حتى بوابة للانفصال إن غابت الثقة.
أما اللامركزية الديمقراطية، فهي مجرد تقسيم سلطات، فلسفة حكم جديدة، قاعدتها أن القرارات تُصنع حيث يعيش الناس، لا حيث تجلس النخب.
تجربة الإدارة الذاتية في إنشاء المجالس البلدية والكومينات والهيئات المجتمعية الأخرى في كافة المجالات.
في سوريا المتشرذمة: أي نموذج هو الأمثل؟
سوريا اليوم ليست تلك الدولة التي كنا نعرفها في خرائط المدرسة. الحرب بعثرت المدن والقرى، وولّدت سلطات متناحرة، وأطلقت يد القوى الإقليمية والدولية. العودة إلى المركزية الصارمة التي حكمت البلاد لعقود أمر شبه مستحيل، لأن الناس جرّبوها ورأوا كيف حوّلت الوطن إلى ساحة تهميش وقمع.
في المقابل، الحديث عن فدرالية كاملة يُخيف كثيرين، إذ يُقرأ على أنه تمهيد للتقسيم. لذلك، يبدو أن الصيغة الأكثر عقلانية هي اللامركزية الديمقراطية – الإدارية: أن يبقى الوطن واحداً، لكن يدار من أسفل إلى أعلى، من القرية والبلدة والمدينة، حيث الناس هم من يقررون في شؤون حياتهم.
الحالة الكردية: البحث عن اعتراف
من بين كل المكوّنات السورية، كان الكرد الأكثر عطشاً للامركزية. عقود من الحرمان من اللغة والهوية جعلتهم يبحثون عن صيغة تحفظ وجودهم. تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا جسدت نموذجاً عملياً لـ اللامركزية الديمقراطية: مجالس محلية، مشاركة نسائية، لغات متعددة، وإشراك كل المكوّنات.
لكن هذه التجربة، رغم قوتها، ما زالت بلا اعتراف دستوري، وتعيش في قلب صراعات إقليمية شرسة. ومع ذلك، فإنها قدّمت رسالة مهمة: اللامركزية ليست تهديداً للوطن، بل وسيلة لإنقاذه من الانهيار.
أي طريق للمستقبل؟
العودة إلى المركزية يعني العودة إلى الاحتقان.
الفدرالية الصلبة قد تفجّر مخاوف الانفصال.
أما اللامركزية الديمقراطية – الإدارية فهي الطريق الوسط، طريق يتيح لكل مكوّن أن يتنفس، ولكل مدينة أن تدير شؤونها، مع بقاء خيمة الوطن قائمة.
اللامركزية في النهاية تعني أن يشعر الكردي في قامشلو، والعربي في دير الزور، والسرياني في الحسكة، أنهم شركاء حقيقيون في القرار، لا رعايا ينتظرون الفتات من العاصمة حتى يسقط كما في عهد النظام الأسدي. حينها فقط يمكن أن تنهض سوريا من ركام الحرب.
فالبلاد لا تُبنى بالمركز وحده، بل تتقوّى بأطرافها. وما لم يصل الدم إلى كل الشرايين، سيبقى القلب ضعيفاً مهما بدا كبيراً.