حوران حم
في تصريحه الأخير، أعلن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع استعداد دمشق للحوار مع الكرد والسويداء “حول كل الحلول ما عدا الانفصال”. للوهلة الأولى قد يُقرأ هذا التصريح كخطوة تكتيكية في سياق إدارة المرحلة، لكنه عند التدقيق يكشف عن تحوّل لافت في بنية الخطاب السياسي الرسمي السوري تجاه الكرد، تحوّل يستحق الوقوف عنده ومقارنته بتاريخ طويل من الإنكار والتهميش.
على مدى عقود، ظل الكرد في سوريا يُعاملون بوصفهم “مشكلة أمنية”. مع بداية الستينيات، جُرّد عشرات الآلاف منهم من الجنسية بموجب إحصاء استثنائي في الحسكة عام 1962، ما خلق مأساة قانونية واجتماعية مستمرة. في السبعينيات والثمانينيات، وُضعوا تحت المجهر الأمني، فتم تقييد حرياتهم الثقافية، ومنع تعليم لغتهم، وأُغلقت أمامهم أبواب التعبير السياسي. أما في التسعينيات وبداية الألفية، فكان مجرد ذكر كلمة “كردي” في الفضاء العام يعد ضرباً من المخاطرة، وكان الاعتراف بالهوية الكردية يُعد تهديداً لوحدة الدولة وفق منطق السلطة.
الأحداث المفصلية مثل انتفاضة قامشلو عام 2004 كشفت عمق الأزمة. الكرد خرجوا حينها للمطالبة بحقوق أساسية، فجوبهوا بالقمع والاتهامات بالانفصال. السلطة حينها لم تفتح باب الحوار، بل شددت قبضتها الأمنية أكثر، مستخدمة نفس الذريعة: “الحفاظ على وحدة البلاد”. كانت لغة التخوين والاتهام بالعمالة لتركيا أو للغرب، هي الغطاء الذي يحجب أي نقاش سياسي حقيقي.
اليوم، مع تصريح الشرع، نرى مفارقة واضحة. الرجل لم يلوّح بفزاعة الانفصال كما جرت العادة، بل جعلها خطاً أحمر وحيداً، وفتح ما سواه للحوار. الأهم أنه لم يخاطب حزباً أو تياراً بعينه، بل تحدث عن “الكرد” كجماعة قومية لها الحق في التمثيل والمشاركة. بهذا المعنى، الشرع لم يعد يتعامل مع القضية الكردية كملف أمني، بل كقضية سياسية وطنية تحتاج إلى معالجة عبر التفاوض والشراكة.
هذا التحول في اللغة لا يعني بالضرورة أن الطريق أصبح معبداً، لكنه يشير إلى بداية كسر القالب التقليدي الذي طُبعت به سياسات دمشق منذ عقود. فبين خطاب الأمس وخطاب اليوم مسافة واسعة: من إنكار الوجود إلى الاعتراف الضمني، من تجريد الحقوق إلى الحديث عن حلول، ومن إدارة الأزمة بالعصا الأمنية إلى محاولة استيعابها عبر الحوار.
لكن، هل يكفي التصريح وحده لإحداث التغيير؟ التجربة تقول إن النوايا قد تتبخر ما لم تتحول إلى خطوات عملية. هنا تبرز أهمية دعوة الشرع لعقد مؤتمر كردي سوري جامع في دمشق، يكون علنياً وتحت أنظار الجميع، لا كتمثيل حزبي ضيق، بل كمنصة لتوحيد الرؤية الكردية وصياغة موقف جامع. نجاح مثل هذا المؤتمر يعني أن الكرد سيأتون إلى الحوار مع دمشق بوصفهم طرفاً سياسياً موحداً، لا جزر متفرقة.
أما في البعد الاستراتيجي، فإن دمشق تدرك أن تجاهل الكرد لم يعد ممكناً. التحولات الإقليمية والدولية قلصت من قدرة السلطة على المناورة. التراجع الروسي والإيراني، الضغوط التركية، وبقاء الأميركيين شرق الفرات، كلها عوامل تجعل إدماج الكرد في الحل الوطني ضرورة لحماية وحدة البلاد.
إن مقارنة الماضي بالحاضر تكشف أن ما قاله الشرع ليس مجرد خطوة عابرة، بل بداية مسار جديد، يضع سوريا أمام خيارين: إما العودة إلى سياسة الإنكار التي لم تثمر سوى مزيد من التوتر والتفكك، أو المضي في مسار الاعتراف والشراكة، وهو المسار الوحيد القادر على إنتاج سوريا جديدة، تعددية، ديمقراطية، موحدة بالفعل لا بالشعارات.
قد تكون كلمات الشرع مجرد بداية، لكنها بداية مختلفة. فلأول مرة منذ عقود لا يُقال للكرد إنهم “طارئون” أو “انفصاليون”، بل يُخاطبون باعتبارهم جزءاً من الحل، لا مجرد مشكلة. وإذا ما التُقطت هذه اللحظة التاريخية بجدية من الطرفين، فإن المستقبل السوري قد يولد على أسس جديدة، تضع حداً لزمن الإنكار وتفتح أبواب المصالحة الوطنية.