إسماعيل كاملة *
في خضمّ أوضاع سياسية ومجتمعية متشابكة، بزغ فجر “الحزب اليساري الكردي في سوريا”، والذي عُرف لاحقًا بـ “حزب آزادي في سوريا”. آنذاك، كان الكفاح الكردي، بنضاله السياسي والعسكري، يشهد صراعًا بين توجهات قومية موروثة، جلّ اهتمامها بالهوية والانتماء، وتوجهات تقدمية ترى أنّ تحقيق الانتصار في النضال القومي مرهونٌ بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية.
لقد جاء تأسيس الحزب وتبنّي الفكر اليساري نتيجةً لتباين فكري مع التيار العام، مدفوعًا بطموح نخبة من المناضلين والمثقفين الكرد لبناء تيار سياسي يهدف إلى صون حقوق الشعب الكردي القومية في سوريا، وفي الوقت ذاته، يساند قضايا الفئات المهمشة، انطلاقًا من قناعة راسخة بأنّ التحرر القومي لا ينفكّ عن التحرر الاجتماعي.
لم تكن الدروب معبّدة أمام الحزب منذ بداياته. فالسلطات السورية دأبت على اعتبار أي تحرك من الجانب الكردي، سواء كان سياسيًا أو اجتماعيًا أو حتى اقتصاديًا، خطرًا يهدد وحدة الدولة، ممّا أسفر عن ملاحقته وتقييد حركته.
علاوة على ذلك، كان العديد من خصومه في الساحة الكردية التقليدية ينظرون إليه بعين الريبة والشك، معتبرين أنّ خطابه السياسي الذي يجمع بين الأممية والبعد الطبقي قد يضعف من الهوية القومية للحركة الكردية. ومع ذلك، تمكن الحزب في مستهل نشاطه من حشد قاعدة من الأنصار والمؤيدين من مختلف شرائح الشعب الكردي، وبرز صوته كصوت مختلف في المشهد السياسي الذي كان يعجّ بالشعارات القومية الفضفاضة.
غير أنّ هذه الرحلة لم تخلُ من صراعات داخلية عصفت بها. لقد كان لداء الانقسامات الذي تفشى في أوساط الحركة الكردية السورية تأثير بالغ على هذا الحزب اليساري، إذ أن طبيعته الفكرية المتنوعة جعلته أكثر عرضة للانشقاقات. وقد شهد الحزب بالفعل عدة انشقاقات، تذرع بعضها بـ “التصحيح” أو “العودة إلى الجذور”، في حين كانت دوافع البعض الآخر دوافع شخصية بحتة أو خلافات حول التحالفات الإقليمية، بينما ساهمت الضغوط الخارجية في تأجيج نار هذه الانقسامات.
ومع كل انشقاق، كان الحزب يخسر جزءًا من قوته وكوادره، لكنه كان يسعى للوقوف مجددًا، متمسكًا بخطاب يوازن بين الهوية القومية والمبادئ الاجتماعية اليسارية. واستمر هذا الوضع المضطرب حتى جاءت تلك اللحظة الحاسمة التي قلبت الموازين: حيث قرر الحزب لأول مرة في تاريخ الحركة الكردية السورية الاتحاد مع حزب الاتحاد الشعبي لتشكيل حزب آزادي في سوريا، وهي كانت خطوة تاريخية كان الهدف منها رأب صدع الحركة الكردية السورية، إلا أنها لم تحقق النجاح المأمول.
وفي المرة الثانية، اتخذ الحزب قرارًا بالاندماج مع ثلاثة أحزاب كردية أخرى لتكوين كيان جديد تحت اسم الحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا. وبالرغم من أن هذا قد بدا ظاهريًا كخطوة نحو توحيد الصفوف وحشد الطاقات لمواجهة التحديات الجسام، إلا أن الواقع كان عكس ذلك تمامًا؛ فقد أدى هذا الاتحاد إلى اضمحلال الحزب اليساري داخل كيان سياسي أكبر يتبنى خطابًا قوميًّا صرفًا، بعيدًا كل البعد عن العمق الاجتماعي والتقدمي الذي طالما ميزه.
لم يكن هذا الاندماج متكافئًا بحال من الأحوال، بل كان أشبه بعملية استيعاب شاملة، حيث تم محو الهوية الفكرية لليسار الكردي من الخطاب الجديد، وتحويل كوادره إمّا إلى مجرد أتباع داخل الهيكل الجديد، أو إلى مهمشين على قارعة الطريق السياسي. وهكذا، تلقى الحزب اليساري الكردي ضربة موجعة، فلم يعد له كيان مستقل، لا على مستوى التنظيم ولا على مستوى الفكر. ومع زوال اسمه، ضاعت معه القيم المرتبطة بالنضال القومي والبعد الإنساني الأممي، ليحل محلها خطاب قومي محض، تقليدي في جوهره، يفتقر إلى البعد الاجتماعي الذي ميز تجربة اليسار.
والأدهى من ذلك أنّ الفكر اليساري الذي كان يمثل جوهر هذا الحزب، قد تُرك قسرًا في يد مجموعة لم تفهمه حق الفهم ولم تعبر عنه بصدق، بل استغلته كشعار أجوف في سياقات لا تمت لروحه بصلة، مجموعة لا يحق لها أن تتحدث باسمه أو تدّعي تمثيله.
على الرغم من كل الظروف التي مرت، الشرارة الأولى التي أدت إلى إنشاء الحزب ما زالت تومض. الفكرة لا تزال حاضرة في أذهان الناس الذين عايشوا تجربة اليسار الكردي، والذين اعتبروها مبادرة شجاعة للخروج عن المألوف. وهي راسخة في أعماق نفوس المؤمنين بأن الحرية من غير عدالة اجتماعية لا تعتبر حرية حقيقية، وأن الانتماء القومي من دون قيم إنسانية هو مجرد انتماء ناقص.
قد يزول التنظيم، ولكن الطموح الذي أطلقه سيظل يظهر كأمل واعد للجيل القادم، وقد يأتي اليوم الذي يجمع فيه هذا الجيل ما تفرق، ويعطي لليسار الكردي في سوريا فرصة جديدة للظهور، تكون أصلب وأكثر إدراكًا من التجربة الماضية.
==========
*كاتب كردي سوري
مدينة إيسن – ألمانيا