حسن برو
منذ انطلاقتها الأولى، تشكّلت ملامح الحركة الكردية كردّ فعل على الواقع السياسي القائم في الدول التي يتوزع فيها الشعب الكردي: “”تركيا، إيران، العراق، وسوريا” ورغم اختلاف السياقات الجغرافية والتاريخية في كل من هذه الدول، فقد اتفقت الحركة الكردية في مجمل خطابها السياسي على نقطة جوهرية واحدة: الكرد شعب أصيل يعاني من التهميش والاضطهاد القومي، وتعمل الأنظمة الحاكمة على إنكار وجوده وحقوقه، بل والسعي إلى طمس هويته الثقافية والتاريخية.
هذا الخطاب، وإن كان يعكس مظلومية حقيقية، إلا أنه لم يرافقه على الدوام مشروع سياسي متماسك أو استراتيجية بعيدة المدى قادرة على إخراج القضية الكردية من دائرة الشكوى إلى دائرة التأثير ، فهل تملك الحركة الكردية اليوم استراتيجية واضحة المعالم؟ أم أنها لا تزال تتحرك ضمن ردود الأفعال الظرفية التي تفرضها الأحداث المحيطة؟
الهوية الكردية كمنطلق لا كهدف
لا شك أن الحفاظ على الهوية القومية كان – ولا يزال – من أولويات الحركة الكردية. فالتأكيد على اللغة الكردية، والثقافة، والتاريخ، كان ضرورة ملحّة في مواجهة المشاريع العنصرية و الصهر القومي التي مارستها الأنظمة المتعاقبة على سدة الحكم ولم تنتهي بحكم البعث والأسدين ” الأب والأبن”.
غير أن التركيز على الهوية، رغم ضرورته، تحول في كثير من الأحيان إلى غاية بذاتها، على حساب تطوير برامج سياسية واقعية تأخذ بعين الاعتبار توازنات القوى الداخلية والخارجية وتعزيز العامل الذاتي في توحيد الطاقات وتوجيهها نحو هدف واضح المعالم مع إمكانية تحقيقها في ظروف معينة بتقاطع مصالح المحلية والاقليمية والدولية ( كما في كردستان العراق) .
بعبارة أخرى….تم التعامل مع الهوية الكردية كمنطلق للصراع، دون أن تُطرح كجزء من مشروع شامل لبناء مستقبل سياسي مستقر.
فهل يكفي التمسك بالهوية لإنتاج مشروع وطني؟
أم أن الهوية تحتاج إلى حامل سياسي يتجاوز العاطفة ؟
أبرز الإشكاليات التي واجهت الحركة الكردية، خصوصًا في سوريا ، هو الانقسام الداخلي ففي غياب مرجعية سياسية جامعة، تعددت القوى والأحزاب، وتشظى المشروع الكردي بين أجندات متباينة، بل ومتصارعة في بعض الأحيان وتحوّل الخلاف الأيديولوجي بين الأحزاب إلى عائق حقيقي أمام بناء استراتيجية موحدة، ما أضعف من قدرة الكرد على التأثير في المشهد السياسي.
من أبرز سمات الحركة الكردية عمومًا في مراحل سابقة ، هي أنها غالبًا ما تتخذ موقفها السياسي كردّ فعل على السياسات التي تتخذها الحكومة المركزية في دمشق وتتأثر كثيرا ببعدها الكردستاني لتحديد مواقفها أصلا ، ولاتتخذ مواقفها كمبادرة مستقلة تتصدر المشهد السياسي، فعندما يتم اضطهاد الكرد، تحتج الأحزاب الكردية وتبقى أخرى صامتة لحين اتخاذ حليفها الكردستاني موقفا من ذلك ، كل ذلك أضاع فرص كثير لبناء شخصية كردية مستقلة ذا استراتيجية مدروسة على المدى الطويل للقضية الكردية في سوريا.
وهنا يحضرني مثال : حيث لم تكن لدى الحركة الكردية – عند اندلاع الثورة – رؤية موحدة لكيفية التعامل مع المتغيرات فبين من رأى في الثورة فرصة للانخراط في مشروع وطني جامع، ومن اعتبر أن الحياد هو الخيار الأمثل، تاه القرار الكردي بين اتجاهين الأول مع قوى ائتلاف الثورة التي ارتهنت لكل من تركيا وقطر ، وقوة بنيت على الأرض بذراع عسكري تعزز مع الايام كواقع لحماية الشعب بكل مكوناته في جغرافية شمال وشرق سوريا رغم تعرضها لنكسات عدة إلا انها بقيت فاعلة بعكس الاتجاه الأول الذي فقد الموقع والزخم الجماهيري ، وأدى غياب التنسيق لعزلها في محطات كثيرة عن نبض الشارع الكردي نفسه.
والمطلوب للتحول لاستراتيجية ناضجة يجب على الحركة الكردية ان تجري تغيير ذاتي بنيوي ليتحول الاحتجاج والشكوى الدائمة إلى فاعل سياسي مؤثر، لذلك هي بحاجة إلى مراجعة جذرية نقدية في بنيتها وآليات تفكيرها ، وأن كونفرانس وحدة الصف والموقف الكرديين الذي عقد مؤخرا في قامشلو يمكن البناء عليه كمشروع سياسي جامع، قادر على التوفيق بين الخصوصية القومية والانخراط في الفضاء الوطني السوري فالقضية الكردية على عدالتها، لا يمكن أن تُحل بمنأى عن الحلول الوطنية الأشمل ودائما العدالة لوحدها غير كافية لحلها وإنما بحاجة لأصدقاء وانصار ليعززها الموقف من حلها ، ويمكن القول إن كونفرانس المكونات في الحسكة كانت خطوة صحيحة بهذا الاتجاه ، ولكن ما يؤسف له هو عدم حضور جزء منها ( المجلس الوطني الكردي) .
كما أن بناء التحالفات – داخليًا وخارجيًا – يجب أن يستند إلى رؤية واضحة، وليس إلى حسابات مصلحية ظرفية. فالتحالف مع قوة إقليمية أو دولية يجب أن يكون أداة لتحقيق أهداف تخدم مصلحة الشعب الكردي أولا وتضع فوق اي اعتبار أخر ومنها المصالح الحزبية الضيقة أو لخدمة القائد على حساب الشعب، ولا يمكن الرهان على وعود قد تتبدل بتبدل المصالح .
اذا لا بد من إعادة الاعتبار للعمل السياسي المؤسساتي تحرك فيها روح المبادرة الفعالة ، وتعزيز المشاركة المجتمعية، وبناء خطاب عقلاني يتجاوز لغة المظلومية إلى لغة الحقوق والقانون والديمقراطية.
وبالنتيجة تملك الحركة الكردية رصيدا نضاليا طويلًا، وقضية عادلة تستحق أن تُطرح في المحافل السياسية والدولية بجدية ووضوح…..لكنها في المقابل لا تزال تفتقر إلى استراتيجية سياسية ناضجة ترتقي بهذا النضال إلى مستوى الفعل السياسي القادر على التغيير، فهل آن أوان الانتقال من الشكوى إلى التخطيط؟ ومن الانقسام إلى الوحدة؟ ومن ردّ الفعل إلى المبادرة؟ أن الإجابة عن هذه الأسئلة برأي ستحدد مستقبل القضية الكردية لعقود قادمة.