رياض علي *
تُعد لجان التحقيق، سواء الوطنية أو الدولية، من أهم الأدوات المستخدمة للكشف عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، وتوثيقها بصورة حيادية وموضوعية. وتكتسب هذه التقارير أهمية خاصة في السياق السوري، حيث تتقاطع فيها العوامل السياسية مع الطابع الطائفي والاجتماعي للنزاع. وقد أثار صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة الأخيرة نقاشاً واسعاً، خصوصاً بعد أن حاول بعض الأطراف إظهار التطابق أو التشابه الكبير بين التقرير الدولي وتقرير لجنة التحقيق الوطنية. غير أنّ المقارنة الدقيقة بين التقريرين تكشف عن فروقات جوهرية في منهجية العمل، والمخرجات، والاستنتاجات، والتوصيات. وسنحاول هنا أن نوضح أبرز أوجه الاختلاف بين التقريرين، وإبراز الدلالات المترتبة على كل منها، وفقاً لما يلي:
أولاً: توصيف طبيعة الاستهداف – البعد الطائفي:
أحد الفوارق الأساسية بين التقريرين يتصل بتوصيف طبيعة الاستهداف الذي تعرض له الضحايا. فقد ذكر تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشكل صريح أن “معظم الضحايا قُتلوا في الأحياء العلوية الواقعة في القرى المختلطة أو في المناطق التي تُعرف بأنها مناطق تقطنها الأقلية العلوية في الغالب، مما يشير إلى استهداف بدوافع طائفية” (الفقرة 74). في المقابل، اكتفت لجنة التحقيق الوطنية بالقول إنه لم يثبت لديها أن الاستهداف كان على أساس طائفي. هذا الاختلاف يعكس تبايناً في الجرأة السياسية وفي مقاربة البعد الهوياتي للصراع، إذ فضّلت اللجنة الوطنية تجنّب الخوض في حساسية الموضوع الطائفي، بينما اعتمدت اللجنة الدولية خطاباً صريحاً، متسقاً مع شهادات الضحايا والأدلة الميدانية.
ثانياً: توصيف الانتهاكات – بين القانون الدولي والتشريع الوطني:
يتصل الفارق الثاني بكيفية توصيف الأفعال المرتكبة. فقد أشار التقرير الأممي إلى أن “أفراداً من قوات الحكومة المؤقتة وأشخاصاً مدنيين شاركوا في أعمال نهب تنتهك القانون الإنساني الدولي، وقد تشكّل هذه الأفعال جرائم حرب” (الفقرة 87) كما ذكرت بان أفعال بعض الفصائل والجماعات، كالقتل والحرمان الشديد من الحرية الجسدية والتعذيب والاضطهاد على أساس ديني، قد ترقى إلى جرائم ضد الانسانية. ومعلوم ان هذه الجرائم ترتكب دائما في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق (المادتين 7-8 من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية)، أما اللجنة الوطنية، فاكتفت بالتأكيد على أنّ هذه الأفعال تُعد جرائم وفق القوانين السورية النافذة، دون تصنيفها كجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. هنا يتضح تباين في المرجعية القانونية: فالتقرير الدولي يستند إلى القانون الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي، بينما يقتصر التقرير الوطني على النصوص القانونية السورية. وهذا التباين ليس تقنياً فحسب، بل يترتب عليه اختلاف في حجم المسؤولية القانونية الدولية، وإمكانية المساءلة أمام المحاكم الدولية.
ثالثاً: تحديد المسؤولية – بين التعميم والتخصيص:
من أبرز نقاط القوة في التقرير الأممي أنه حدد بشكل واضح فصائل بعينها متورطة في الانتهاكات، مثل “العمشات” و”الحمزات” وغيرهما. أما اللجنة الوطنية، فتبنّت خطاباً أكثر عمومية، مكتفية بالقول إن “عناصر خالفوا الأوامر العسكرية” هم من ارتكبوا تلك الانتهاكات. هذا الاختلاف يطرح إشكالية محاسبة المسؤولين، إذ أن تسمية الفصائل يفتح الباب أمام مطالبات واضحة بعزل ومحاسبة قادتها، خاصة وأن بعض هذه الفصائل مدرج أصلاً على قوائم العقوبات الأمريكية والأوروبية. بينما يتيح التوصيف الوطني الموارب هامشاً للتهرب من المحاسبة عبر إلقاء اللوم على “عناصر منفلتة” دون المساس بالقيادة، وهو ما يشكّل خرقًا واضحًا لقواعد القانون الجنائي الدولي، وتحديدًا المادة 28 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي أكدت على أن القادة العسكريين والأشخاص الذين يتصرفون كقادة عسكريين يُسألون جنائيًا عن الجرائم التي ترتكبها القوات الخاضعة لإمرتهم وسيطرتهم الفعلية، وذلك إذا لم يتخذوا الإجراءات اللازمة لمنع ارتكاب الجرائم أو لم يحاسبوا مرتكبيها. وهذه المسؤولية لا تتطلب إثبات إصدار أوامر مباشرة؛ بل يكفي أن يكون القائد على علم، أو من المفترض أن يكون على علم بما يجري، استنادًا إلى موقعه وسلطته والظروف المحيطة.
رابعاً: التوصيات – الانضمام إلى المعاهدات الدولية:
في جانب التوصيات، أوصت لجنة التحقيق الدولية بشكل مباشر بضرورة انضمام سوريا إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بما يمكّن من ملاحقة مرتكبي الجرائم الجسيمة. في المقابل، اقتصرت لجنة التحقيق الوطنية على التوصية بالانضمام إلى “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري”، متجنبةً الإشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية. هذا التباين يعكس حدود استقلالية اللجنة الوطنية، والتزامها بالإطار السياسي الذي تسعى الحكومة المؤقتة إلى رسمه، حيث يُنظر إلى المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها تهديداً مباشراً للنخب العسكرية والسياسية المسيطرة.
خامساً: قضايا أخرى أغفلها التقرير الوطني:
فضلاً عن الفروقات الجوهرية السابقة، أظهر التقرير الدولي جرأة أكبر في تناول قضايا حساسة، مثل مسألة إعلان النفير العام من المساجد وتغاضي الحكومة عنه، وشعور النساء العلويات بضرورة ارتداء الحجاب خوفاً من الاستهداف، وحالات الخطف التي ما تزال مستمرة. في المقابل، لم تتطرق لجنة التحقيق الوطنية إلى هذه القضايا مطلقاً، وهو ما يعكس توجهاً لتجنب كل ما قد يُظهر الحكومة المؤقتة بمظهر العاجز أو المتواطئ.
سادساً: أعداد الضحايا والتوثيق:
من الملاحظ أنّ الأرقام الواردة في التقريرين متقاربة إلى حد كبير. ويعود ذلك إلى أن كلا اللجنتين اعتمدتا على مقابلات مع أهالي الضحايا والمنظمات المحلية العاملة في مجال التوثيق. إلا أن التشابه في الأرقام لا يعني تطابقاً في التوصيف أو الاستنتاجات، بل يُظهر أن الاختلافات ليست في المعطيات الخام بقدر ما هي في كيفية قراءتها وتحليلها وإطارها القانوني والسياسي.
سابعاً: مسؤولية الحكومة المؤقتة
أشار التقرير الأممي بوضوح إلى أنّه لم يجد دليلاً على وجود “سياسة أو خطة” لدى الحكومة المؤقتة لارتكاب تلك الانتهاكات. لكنه، في الوقت ذاته، أكد أن الحكومة لم تبذل “العناية الواجبة” لمنع الانتهاكات، لا سيما حالات الحرمان من الحرية التي كان من الممكن توقعها بشكل معقول. وهذا يترجم في القانون الدولي باعتبار الحكومة مسؤولة عن تقاعسها في ضبط الفصائل المسلحة التي تعمل تحت سلطتها. بهذا المعنى، حمّل التقرير الأممي الحكومة المؤقتة مسؤولية غير مباشرة عن أفعال وزارتي الدفاع والداخلية والفصائل التابعة لهما. في المقابل، لم تُشر لجنة التحقيق الوطنية إلى هذه المسؤولية البنيوية، مكتفية بالتركيز على أفعال الأفراد.
ثامناً: انعكاسات سياسية وقانونية
تثير هذه الفروقات تساؤلات جوهرية حول مدى استعداد الحكومة المؤقتة للاستجابة لمقتضيات المساءلة. فبعد أن رحّبت وزارة الخارجية بالتقرير الأممي، يُطرح السؤال: هل ستتم محاسبة قادة الفصائل التي ورد ذكرها بالاسم؟ وهل ستتخذ خطوات جدية لعزلهم أو تقديمهم للمحاكمة؟ التجربة السابقة تُظهر أن هذه الفصائل لم تذكر للمرة الأولى في تقارير دولية، بل وردت أسماؤها مراراً، ومع ذلك لم تُتخذ إجراءات ملموسة ضدها. هذا يعكس إشكالية أعمق تتعلق بالتماهي بين القوى السياسية والعسكرية، واستحالة تحقيق العدالة في ظل غياب استقلالية القضاء والقرار السياسي.
إن المقارنة بين تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة وتقرير لجنة التحقيق الوطنية تكشف عن تباينات جوهرية تتجاوز التفاصيل الفنية. فهي تعكس اختلافاً في المرجعية القانونية (دولي مقابل محلي)، وفي الجرأة السياسية (تسمية الفصائل وتوصيف البعد الطائفي مقابل التعميم والتجنب)، وفي مستوى الطموح الإصلاحي (المطالبة بالانضمام للمحكمة الجنائية الدولية مقابل الاكتفاء بمعاهدات أقل إشكالية). كل ذلك يضع الحكومة المؤقتة أمام اختبار حقيقي: إما التعامل مع التقرير الأممي بجدية، بما يعنيه من مساءلة وإصلاحات مؤلمة، أو الاكتفاء بالترحيب الخطابي دون إجراءات عملية. وفي الحالتين، تبقى أعين الضحايا والمنظمات الحقوقية تراقب، وتنتظر تحقيق العدالة المؤجلة.
*باحث وقاضي سوري