اكرم حسين
لم يعد السؤال المطروح أمام الكرد السوريين يقتصر على ضمان وجودهم في سوريا المستقبل، بل يتعداه إلى كيفية إعادة صياغة هذا الوجود وتثبيته كعنصر فاعل في إعادة بناء الدولة على أسس جديدة. فالأزمة الوطنية العميقة التي عاشتها البلاد وما أفرزته من انهيار في مؤسساتها ومجتمعها، فتحت فرصة تاريخية للكرد كي ينتقلوا من موقع التهميش إلى موقع الشراكة الكاملة في صياغة المستقبل. غير أن هذا التحول لا يمكن أن يتحقق بالشعارات أو النزعات الانفعالية، بل عبر مقاربة سياسية عقلانية تتسم بالمرونة والتوازن بين المطالب القومية والالتزامات الوطنية.
فالعقلانية السياسية هي المدخل الأساس، فهي تقتضي إدراك حدود الممكن والتدرج في تحقيق الطموحات، عبر مسار يقوم على الحوار وصياغة دستور جديد والمشاركة الفعلية في مؤسسات الدولة المقبلة ، وانتاج خطاب يطمئن الشركاء السوريين ويؤكد أن الهدف ليس الانفصال أو فرض نموذج معيّن، وإنما بناء دولة ديمقراطية تشاركية تعترف بالتعددية القومية والثقافية وتتيح لكل المكونات المساهمة في إدارة شؤونها وصياغة مستقبلها.
ولعل التجارب الماضية برهنت أن الارتهان للقوى الإقليمية أو الدولية كلّف الكرد خسائر سياسية كبيرة، الأمر الذي يفرض تبني نهج براغماتي منفتح على مختلف القوى السورية، بما في ذلك السلطة الانتقالية، مع المحافظة على توازن العلاقات الإقليمية والدولية ، والمرونة هنا تعني القدرة على التكيف مع التحولات المتسارعة وتجنب العزلة، مع إبقاء الخيارات مفتوحة وعدم الارتهان لمسار واحد.
التحول الجوهري المطلوب يكمن في الانتقال من منطق المطالب الجزئية إلى موقع الشريك المؤسس في سوريا الجديدة، وهذا يقتضي مشروعاً سياسياً متكاملاً لا يقتصر على الحقوق القومية، بل يتناول شكل الدولة والنظام السياسي وأسس المواطنة والضمانات الدستورية للعلاقات بين المركز والأقاليم. عندها يصبح الكرد قوة بناءة في عملية إعادة التأسيس بدلاً من أن يكونوا متلقين لما يقرره الآخرون.
لكن هذا التموضع يظل مرهوناً بقدرة القوى الكردية على تجاوز انقساماتها. فالتشرذم كان سبباً رئيسياً في إضعاف الموقف الكردي وإضاعة الكثير من الفرص.
ما هو مطلوب اليوم هو مرجعية سياسية جامعة أو على الأقل اتفاق على ثوابت عامة يُدار الخلاف في إطارها، مع شجاعة لتجاوز الحسابات الحزبية الضيقة، والانفتاح على الكفاءات المستقلة، وإفساح المجال أمام الشباب والمرأة للمشاركة في العمل السياسي.
وفي الوقت ذاته، فإن أي حل للقضية الكردية لا يمكن أن يكون بمعزل عن المسألة الوطنية السورية ككل. لأن الخطاب المنعزل عن هموم السوريين الآخرين محكوم عليه بالفشل. لذلك فإن ربط المطالب الكردية بمسار بناء دولة ديمقراطية عادلة هو السبيل الأمثل لترسيخها ، والانفتاح على المكونات العربية والآشورية والسريانية والتركمانية وغيرها جزء أساسي من هذا التموضع، لأن موقع الكرد يجب أن يكون في قلب المشهد السوري لا على هامشه.
كما يكتسب إعادة تعريف العلاقة مع الدولة محوراً أساسياً في هذا السياق . فالنظام المركزي المتصلب الذي حكم سوريا لعقود أثبت فشله في التنمية والإدماج وأدى إلى التهميش والتمييز. من هنا تبرز اللامركزية كخيار واقعي يتيح للمكونات إدارة شؤونها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ضمن إطار الدولة الواحدة، ويؤسس في الوقت نفسه لبناء مؤسسات حديثة أكثر عدالة وفاعلية في اطار الحل الوطني الشامل بما يعزز استقرار سوريا ويمنع عودة الاستبداد بعيداً عن مطالب الكرد الخاصة .
إن الكرد السوريين يقفون اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة موقعهم السياسي. غير أن هذه الفرصة لن تتحول إلى واقع إلا إذا تغلّبت العقلانية على الانفعال، والمشروع الوطني على المصالح الحزبية الضيقة. فإذا استطاعوا توحيد صفوفهم وتقديم رؤية واضحة لسوريا المستقبل والانخراط في عملية إعادة البناء، فإنهم سيغدون شركاء مؤسسين في دولة ديمقراطية تعددية. أما إذا استمر الانقسام وطغت الاعتبارات الفئوية، فإن الفرصة ستضيع مجدداً، وسيعود الكرد إلى دائرة التهميش والانتظار ، وبالتالي فإن هندسة التموضع الكردي ليست تكتيك سياسي أو مسألة تفاوضية، بل هي مشروع وطني يحتاج إلى شجاعة وإرادة ورؤية بعيدة المدى، قادرة على تحويل التحديات إلى فرص وجعل الأزمة إلى بداية لتأسيس جديد.