عبد الجابر حبيب
الفكر الديني المتطرف ومعركة الوعي الوطني:
في كل حقبة من التاريخ، ظهر من يحاول الاستئثار بالسلطة باسم الدين، فيحوّل قدسية العقيدة إلى أداة للهيمنة، ويستبدل روح التسامح الإنساني بثقافة الإقصاء والكراهية. ولعلّ أخطر ما يواجه الأوطان اليوم هو الفكر الديني المتطرف، الذي يُغلّف أهدافه السياسية والشخصية بغطاء القداسة، فيجعل أي معارضة له أشبه بمعارضة للإيمان ذاته.
في المقابل، يثبت التاريخ أن الفكر المعتدل، القائم على مبدأ “الدين لله والوطن للجميع”، هو السبيل الأوحد لبناء أوطان يتساوى فيها المواطنون، ويحترم فيها الإنسان أخاه الإنسان، بعيداً عن الطائفية والتعصب والتمييز. فالدين عقيدة شخصية، والوطن إطار جامع للجميع، ولا وطن حقيقي إلا إذا كان حضناً آمناً لمختلف أطيافه ومعتقداته.
غياب القرار المستقل: بداية السقوط
تبقى الحقيقة واضحة: الشعوب التي لا تملك قرارها، لا تملك مصيرها. فإذا كان غيرك هو من يحدد اتجاهاتك ويخطط مستقبلك، فاعلم أنك تسير نحو هاوية لا قرار لها. الاستقلال الحقيقي يبدأ من استقلال القرار، والسيادة تبدأ من امتلاك البوصلة التي تحدد ما يجب فعله، لا ما يُملى عليك فعله.
التعايش واستحالة الجمع بين الظلام والنور
لا يمكن أن يعيش الناس بسلام إذا ساروا خلف فكر جهادي متطرف يرفض التنوع ويستبيح الخصوصيات. كما يقول المثل: “مادام البصل لا يصير مربى، فمن المستحيل على التافه أن يتربى”. فمن نشأ على ثقافة الكراهية لن يصنع السلام، ومن تربى على إلغاء الآخر لن يبني وطناً.
سلطة رجال الدين وأخطارها
قال تشي غيفارا يوماً: “إذا اعتمدت على رجال الدين في دولة وإنسان راقٍ، فتأكد أنك لن تبني دولة، ولن تصنع إنساناً، بل ستبني مغارة لصوص وبجوارها مقبرة”.
وعبر التاريخ، كان أخطر ما يهدد المجتمعات هو الحكم باسم الله، لأن ذلك يفتح الباب واسعاً للاستبداد بلا محاسبة، ويحوّل الأفراح إلى أحزان، والحياة إلى قمع بحجة الحفاظ على الأمن العام.
ازدواجية المعايير
متى كانت صالات الفرح خطراً على السلم الأهلي؟
متى أصبح حب الحياة جريمة؟
في حين أن العصابات المسلحة التي تروع الآمنين وتسطو على البيوت ليست في حسابات الخطر الأمني، ولا يلتفت إليها المسؤولون، تُمارَس القيود على الأبرياء باسم الأخلاق والدين.
والأمثلة كثيرة، آخرها ما جرى قبل أيام حين نشرت مجموعة متوحشة مقطعاً مصوراً يظهر اعتداءها على مطرب غنّى يوماً للجيش السوري، وكأنهم يملكون حق الوصاية على ضمائر الناس، في الوقت الذي يرتكب فيه بعضهم أفظع الجرائم باسم الدين.
مؤتمر الحسكة: نموذج مضاد للتطرف
في قلب هذا المشهد القاتم، انبثق مؤتمر الحسكة كشرارة نور في عتمة دامسة، ليؤكد أن إرادة السوريين الحقيقية ما زالت قادرة على صياغة مشروع وطني جامع، مشروع يعلو فوق جراح الحرب وأحقاد الطائفية، ويستند إلى الديمقراطية الحقيقية، والتعددية الثرية، واللامركزية التي تضمن لكل مكوّن حقه في المشاركة الكاملة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.
لقد كان المؤتمر بمثابة طعنة في قلب الفكر الراديكالي الإسلامي المتزمت، ورسالة رفض صاخبة لكل من يحلم بجرّ سوريا إلى عصور الظلام وإعادتها قروناً إلى الوراء. كما كان صفعة مدوّية على وجه الأطماع التركية والقطرية التي لم تتورع يوماً عن المتاجرة بدماء السوريين وتحويل مأساتهم إلى سلعة في أسواق المصالح الإقليمية.
نحو وطن للجميع
إن غايتنا ليست استبدال جلاد بجلاد، ولا استبدال سوط بآخر، بل اجتثاث الظلم من جذوره حتى لا يعود له ظل في أرضنا. فالوطن الحق هو الحضن الذي يسع جميع أبنائه بلا استثناء، ويتحرر من أوصياء الله المزعومين على الأرض، ويُشاد على أسس المساواة المطلقة والكرامة الإنسانية والاحترام العميق للآخر. أما الأوطان التي تُساق بعصا التطرف وتُكمَّم أفواه أهلها باسم العقيدة، فليست سوى معتقلات كبرى، أسوارها من الخوف، وأبوابها من الحديد، ومآلها حتماً الانهيار تحت ثقل القهر والظلام.
أخيراً
لن ينهض وطن على فكر إقصائي يزرع الكراهية بدل المحبة، ولن تُصان كرامة شعب يفتقد قراره المستقل. الدين لله، والوطن للجميع، والإنسانية هي العهد الأسمى الذي يجمعنا. أما أولئك الذين يختبئون خلف ستار السماء ليزرعوا ظلم الأرض، فمهما طال بهم الزمن، سيطويهم التاريخ كما يطوي رماد النار الباردة. ويبقى الوطن هو الحلم الأكبر، والمقدس الأجمل، الذي نستحق أن نحيا لأجله ونموت في سبيله، لتظل رايته مرفوعة فوق تراب الحرية لا فوق ركام القهر.