عبد الجابر حبيب
الحصان الميت: مرآة الخراب السوري
تقول “نظرية الحصان الميت” إن أفضل ما يمكن فعله حين تكتشف أنك راكب حصاناً ميتاً هو أن تنزل عنه. لكننا هنا لا ننزل؛ نغيّر السروج، نبدّل الفرسان، ونخترع تعاريف جديدة للموت لنقنع أنفسنا أن الجثة ما زالت تركض.
على جثة حصان ميت نجلس منذ أعوام، نكتب خطابات عن الحياة في جسد لا نبض فيه. أليست هذه سوريا التي التهمتها الحرب؟ وطن يَحيا على أجهزة إنعاش وهمية، تتناوب عليها أيادٍ تعرف أنه يحتضر لكنها لا تعترف.
كيف ننهض من الركام؟
بلدٌ أنهكته الحروب والانقسامات، ومع ذلك نعيد تدوير الخراب بأسماء جديدة ونسمّيه “إصلاحاً”. نضاعف الجهد في السراب ونغلق على أنفسنا في لجان تهرب من السؤال الجوهري: كيف ننهض؟
الحقيقة أن الإنكار أخطر أشكال العبث؛ لأنه يستهلك طاقاتنا في إحياء ما لا حياة فيه. الحياة لا تُستعاد إلا حين نكف عن التشبث بالموت.
جذور لا تموت
في الحقيقة الأمل ليس ترفاً عاطفياً كما يعتقد البعض، إنما هو فعل مقاومة. يقول تشي جيفارا في هذا الجزئية “يمكنهم أن يقطعوا جميع الأزهار، لكنهم لا يستطيعون أن يمنعوا الربيع من القدوم”.
من هذا المنظور علينا أن ننظر إلى سوريا بأنها ليست جثة؛ إنها شجرة ذُبحت أغصانها وبقيت جذورها تنتظر ماءً يعيدها للحياة.
إنهم يقطعون الأزهار كل يوم: قذائف، فيتوات، طوابير جوع، موت في المنفى والبيوت. لكنهم لا يستطيعون قتل الربيع إن أحييناه فينا أولاً.
قانون الطبيعة: خلاصنا مشترك
النهر لا يشرب ماءه، والشمس لا تشرق لذاتها، فلماذا نعيش وكأن الخلاص جزيرة معزولة، وكأن وجع الآخر لا يعنينا؟
ما حدث في الساحل والسويداء ليس صدفة ولا حادثة عابرة، بل صفعة على وجه وطنٍ يتفتّت وهو صامت. إذا لم نتدارك الأمر، فإن تيار الحقد سيجرفنا جميعاً، وسنجد أنفسنا نقف على ضفاف دمائنا، نتفرج على الوطن وهو يغرق.
إن أخطر الطعنات ليست من العدو البعيد، بل من الشقوق التي حفرناها نحن في جدارنا، من عقلٍ فاسد يسكننا ويغذّي نزيفنا بحجج مخترعة في كل ساعة، حتى نصبح نحن أعداء أنفسنا، نمزّق ما تبقى من خريطة اسمها سوريا.
وصايا لبناء وطن معافى
يقول كونفوشيوس: “إذا أردت أن تخطط لعام فازرع الأرز، وإذا أردت لعشرة أعوام فازرع الأشجار، وإذا أردت لمائة عام فقم بتعليم الأطفال”.
إن أردنا استعادة سوريا، فلنزرع فيها العلم ونحرث عقول صغارها، لأن الذين يولدون في العتمة لا يرون النور صدفة. لا تكفينا المسكنات السريعة؛ نحتاج مشروعاً يزرع المستقبل في تربة اليوم.
تغيير الوسائل قبل أن نستنزف:
يحكى عن رجل أعمى كتب على لافتته “أنا أعمى أرجوكم ساعدوني”، فلم يحصد إلا القليل. مرّ به آخر وكتب “نحن في فصل الربيع لكنني لا أستطيع رؤية جماله”، فامتلأت قبعته بالنقود خلال وقت قصير. لم يتغير العمى، لكن تغيّرت الوسيلة.
هكذا نحن: مشكلتنا ليست موت الحصان فحسب، وإنما في عجزنا عن تغيير الوسائل، ورؤية الحقيقة بعيون جديدة.
نصرّ على الطرق ذاتها، وننتظر نتائج مختلفة، نبني على ركام متهالك، ونسمّيه إعماراً، نُعيد تكرار خطابٍ مات منذ زمن ونظن أنه سيوقظنا للحياة.
إذا أردنا أن ننهض، فعلينا أن نمتلك شجاعة إعادة صياغة كل شيء: خطابنا، أدواتنا، رؤيتنا. لا يكفي أن نعرف الحقيقة، بل علينا أن نمتلك الخيال لنكتبها من جديد، أن نصوغها بلغة تعيد الثقة المفقودة، وتفتح نوافذ نحو مستقبل لم يجرؤ أحد على تخيله بعد.
شجاعة النزول
سوريا ليست حصاناً ميتاً كما أسلفنا، لكنها ستظل كذلك ما دمنا نعيد طلاء الموت بألوان زائفة، ونصرّ على إبقائها في السرج ذاته الذي أوصلها إلى حتفها.
علينا أن نمتلك الشجاعة لننزل عن ذلك الحصان، ونزرع شجرة مكانه، ونصبر على ثمارها. لأن الأوطان لا تُبنى بخطابات الإنكار، ولا بتبديل الفرسان، بل بوعي الناس، وتكاتفهم، وإيمانهم أن الربيع آتٍ مهما طال الشتاء.
إن النزول عن الحصان ليس هزيمة، بل بداية، والطريق إلى النهضة. أن نكف عن عبادة الماضي، وأن نزرع بذوراً لا نراها اليوم، لكننا نؤمن أن أبناءنا سيقطفون ثمارها.
ذلك هو جوهر الفلسفة التي تعيد إحياء الأوطان: مواجهة الحقيقة، والتحرر من عبودية الإنكار، واستبدال الخوف بالشجاعة، واليأس بالفعل.
طريق البناء يبدأ بخطوة جرئية
ليس أمامنا ترف الانتظار. إما أن نكسر دائرة الموت ونفتح نوافذ للربيع، أو سنظل نحرث في جثة حصان ميت حتى يبتلعنا العدم. النهوض قرار لا تؤجله الأوطان النازفة. لنعلن الحرب على كل من يريد إنماء الطائفية في أيِّ مكان، ولنزرع على دروب المدن ياسمين الشام.