نعم للـ(اللامركزية)، لا للـ(مركزية)

علي شمدين
لقد خرج الشعب السوري مطلع عام (٢٠١١)، بمختلف فئاته إلى الشوارع بصدور عارية ضد (المركزية)، التي اتخذها حزب البعث البائد، ولأكثر من ستة عقود من الزمن، نظاماً استبدادياً لإدارة البلاد بقوة الحديد والنار، وذلك من خلال احتكاره لجميع السلطات (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية)، وتفرده بقيادة الدولة والمجتمع، واغتياله الحياة السياسية والحزبية، وإلغائه حرية الصحافة والإعلام والتعبير عن الرأي، وإقصائه مختلف المكونات القومية والدينية وتأليبها ضد بعضها البعض، وإفساده العلاقات الاجتماعية والثقافية والإنسانية وتشتيتها حتى على صعيد العائلة الواحدة، وتحوّيله مؤسسات الدولة إلى منظومة أمنية دموية تتحكم بشكل وحشي في كل مفاصل الحياة..
ولا شك بأن نصيب الكرد من كل ذلك الاستبداد والقهر والحرمان كان مضاعفاً، حيث ظل سيف التخوين والاتهام بالانفصالية مسلطاً على رقابهم من جانب الشوفينين والعنصريين لمجرد أنهم كانوا يطالبون بأبسط حقوقهم القومية للعيش على أرضهم التاريخية بحرية وكرامة في ظل نظام (لا مركزي). فظل الكرد بسبب ذلك محكومين بتهمة العمل من أجل تقسيم البلاد وتشكيل (إسرائيل الثانية)، واقتطاع أجزاء من سوريا وإلحاقها بدولة مجاورة (والمقصود بها تركيا)، لا بل تم اعتبارهم بمثابة كتلة سرطانية في جسد الأمة العربية ولابد من بترها واستئصالها من الجذور لمجرد أنهم طالبوا بنوع من اللامركزية في إدارة مناطقهم ليس إلّا.
أجل، لقد خرج الشعب السوري ضد هذه المركزية التي خنقت البلاد وقزمتها على شكل مزرعة تعيث فيها عائلة الأسد فساداً وقهراً واستبداداً خلال العقود الخمسة الأخيرة من سلطة البعث التي جعلت من المواطنين عبيداً لا حول لهم ولا قوة، والتي ظلت زبانيتها حتى يوم فرارها تردد بملء فمها: (الأسد، أو نحرق البلد). ولكن في لحظة تاريخة فارقة فرّ بشار الأسد ذليلاً، وتفاءل الناس خيراً بسقوط تلك السلطة المركزية الصارمة التي لم تخلف وراءها سوى كل هذه الكوارث والمآسي والآلام التي شملت، وإن بدرجات متفاوتة، جميع من كان يعيش خارج دائرتها الأمنية المغلقة، وصار هؤلاء الناس يحلمون بعهد جديد لا يتكرر فيه ثانية مثل هذا الطغيان والاستبداد، وذلك عبر بناء نظام ديمقراطي تعددي جديد ينبذ نظام الحكم الفردي، حيث أثبتت تجربة البعث فشل مثل هذا النظام المركزي فشلاً ذريعاً.
ولهذا، تكاتفت المكونات الوطنية بمختلف انتماءاتها القومية والدينة، بما فيها المكون العلوي أيضاً الذي تأذى هو الآخر من وحشية النظام المنهار واكتوى كغيره من المكونات الأخرى بنيران ترسانته العسكرية، وأجمعت تلك المكونات على أهمية إقرار التجربة اللامركزية وضرورة اعتمادها نظاماً لبناء سوريا الجديدة، حرصاً منها على قطع الطريق أمام انبعاث أحفاد النظام المقبور ومنعهم من انتاج النظام المركزي من جديد. ولكن المخيب للآمال هو أن الخلف، وكما كان متوقعاً، فسرّ كسلفه هذا الحرص على أنه يضمر بداخله مؤامرة انفصالية تهدف إلى تقسيم البلاد وتمزيق نسيجها، فسار الخلف على خطا السلف وأخذ من مطلب المكونات باللامركزية غطاءً لإلصاق تهمة الإنفصالية بالمختلفين مع منظومته الجهادية، وسارع إلى تنفيذ سلسلة متلاحقة وعاجلة من الخطوات الأحادية والإقصائية ذات اللون الواحد، فقطع بذلك الطريق أمام بناء سوريا الجديدة التي يريدها الشعب السوري كدولة ديمقراطية مدنية دفع خلال عقد ونصف من الزمن أنهاراً من دموع أبنائه ودمائهم الذكية قرباناً للتخلص من ذلك النظام المركزي الذي أحرق البلد قبل أن يسقط للأبد، فاستطاعت هيئة تحرير الشام وخلال أقل من نصف عام من هذا السقوط المدوي لنظام البعث أن تعيد انتاجه من جديد وبشكل أسوأ من قبل بكثير، وهي التي قامت بنفسها من أجل إسقاطه وأعلنت على أنقاضه إدارته المؤقتة برئاسة زعيمها (أحمد الشرع).
أن المطالبة باعتماد نظام الـ(لامركزية)، في تشكيل الدولة الوطنية الجامعة وبناء سوريا الجديدة، وخاصة بعد المجازر الطائفية والعرقية الفظيعة التي شهدتها مناطق الساحل وجبل العرب وتفجير كنيسة القديس مار إلياس بدمشق والتهديدات المستمرة باجتياح شرق الفرات، باتت تثير المخاوف والرعب لدى المستبدين والشوفينيين الذين احتكروا وما زالوا يحتكرون السلطة بشكل مركزي صارم وفقاً لشعارهم القائل: (من يحرّر يقرّر)، خاصة وأن مثل هذه المطالبة بالـ(لامركزية)، تصدر من جانب المكونات المتعايشة معهم في حدود وطن واحد، فيقومون بتخوين المطالبين بها، وخاصة المكون الكردي، ويتهمونهم بمؤامرة تقسيم البلاد وتفتيت نسيجها الوطني.
الحقيقة أن مركزية النظام السابق كانت تجسد في جوهرها كل تلك الجرائم والفظائع التي قامت بها زبانية البعث، وتدعي هيئة تحرير الشام اليوم على أنها هي التي اسقطت ذلك النظام و(حرّرت) البلاد من مركزيته المدمرة للنسيج الوطني، فإذا كان القائمون على الإدارة المؤقتة في دمشق يرفضون أن نقول: نعم للـ(اللامركزية)، لأنها، وكما أسلفنا، تثير لديهم كل هذا الكم الهائل من الحساسية والحقد الأعمى، فلماذا إذاً لا يقبلون أن نقول: لا للـ(مركزية)..؟!
٥ أب ٢٠٢٥

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…