فرحان كلش
يبدو أن جلد الكردي أصبح طرياً أكثر من اللازم، حتى تنهشه الأطراف الإقليمية بهذه الوقاحة السياسية والعسكرية في حدّيها الخافي والمعلن، وأصبح الرقعة الأكثر إثارة لتمرير أحلام الآخرين في السيطرة وإعادة تدوين تاريخهم، وكل ذلك في عملية إغفال قذرة لحقيقة مصير شعب متجذر في هذه الجغرافيا، لم تنقصه اللحظة التاريخية للتحرر، بل خيارات ضبابية اتخذها في مسيرة كفاحه الممتدة لمئات السنين.
بعد سقوط الأسد المجرم واستلام دفة إدارة دمشق فصيل سلفي جهادي، يقوده متهم بالإرهاب وعليه أحكام قضائية وكان رأسه مطلوباً للعدالة حتى الأمس القريب قبل أن تُعقد صفقات سياسية ويتم إنقاذ رأسه على البيعة كما يُقال، إزدات مخاوف جارة سوريا الغربية من وجود سلطة في دمشق تعادي اليهودية قبل إسرائيل تاريخياً من الوجهة العقائدية، فراحت تؤمن ما يُسمى عادة بالأمن القومي الإسرائيلي من خلال التدخل المباشر في الأراضي السورية لتكون دمشق على مرمى حجر فالت من بين جنازير دباباتها، واستغلت حالة التوحش لدى إدارة دمشق تجاه كل مختلف مجتمعي، معتقدي، نموذج تفكير مختلف، وتدخلت في مسألة السويداء وفرضت واقع جديد جنوب البلاد، ولم تكتف بذلك بل-حسب الكثير من المحللين- تسعى إلى التأسيس لشريط حدودي مع الأردن والعراق وصولاً إلى شرق الفرات حيث قوات سوريا الديمقراطية والمناطق الكردية، وسميت هذه العملية بممر داوود، وهذا الممر لو تم تنفيذه سيشكل حالة خنق ومنع لوصول الغاز القطري إلى تركيا ثم إلى أوربا مروراً بسوريا، إضافة إلى أنها ستصبح تحالفياً على حدود إيران من خلال الامتداد الديمغرافي الكردي.
ومن جانب آخر، شعرت تركيا بقلق بالغ من الأحداث في سوريا، ولكنها سرعان ما استذكرت واستحضرت طموحاتها التوسعية، ضمن ما يُدعى بالميثاق المللي، والذي تعتبر تركيا كل مناطق توسع الخلافة العثمانية، خاصة ما تعتبرها مناطق الناطقين بالتركية جزء من تاريخها وتعمل على استعادتها، ولم يكن استيلائها على لواء الإسكندرون السوري في عام 1939م إلا جزء من هذا المشروع التوسعي العثماني.
ولاحقاً شكلت كل تدخلاتها العسكرية في سوريا، “درع الفرات” (2016)م، “غصن الزيتون” (2018)م، إلى “نبع السلام” (2019)م، وكذلك في إقليم كردستان العراق جاءت ضمن هذا السياق، رغم كل الحجج التي تتبجح بها.
والآن في ظل حالة التوتر الذي تعيشها دول المنطقة، تحت وطأة جملة مشاريع تُطرح على الطاولة، وأهمها ربما فكرة إعادة ترتيب جغرافية المنطقة حسب منطلقات الديمغرافيا والثروة، والتي ستساهم في جعل اسرائيل سيدة الاقتصاد والعسكرة، كما يطمح منظروا مشروع الشرق الأوسط الجديد و السلام الإبراهيمي، ولكي لا تكون تركيا من ضحايا هذا المشروع، راحت تعمل على عدة محاور، تجلت في التدخلات العسكرية الخارجية، وطرح فكرة المصالحة مع كرد تركيا، في إطار دعوة بهجلي-أوجلان لحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه، مع بعض الكلام الغامض عن بعض الحقوق للكرد.
ولم تكتف تركيا بذلك بل بدأت تطرح فكرة الميثاق المللي مجدداً، لإحتواء القضية الكردية(تشكيل ولايات ذاتية الحكم أو فدرالية على أن تكون تحت سقف الدولة والعلم واللغة التركية) كما كانت الخلافة العثمانية سابقاً، وكل ذلك لأن القضية الكردية تدوّلت عملياً ويمكنها أن تكون عامل تفتيت صريح لتركيا ضمن ظروف محددة لا يمكن التقليل من شأنها وتأثيرها.
من هنا نلاحظ أن المشروعين متقاطعان بالجغرافيا وملتقيان بالغايات، وتغفلان مصالح الكرد الحقيقية لصالح طموحاتهما الإستعمارية الماضوية، ولا يمكن إيجاد منطقة سلام بين الطرفين طالما التوسع سمتهما الأوضح.
وإذا أجزمنا أن جراح المنطقة يتم استغلالها، من خلال الضغط عليها أكثر، وتوسيع سلسلة المشاريع المافوق مصالح الديموغرافيا ومنطق حقوق الشعوب، فلن تنجح إلا في حدودها الدنيا وستكون مجرد إضافة سيئة لأزمات المنطقة وتمديد أمد الصراعات فيها.
و الكرد كالجزء البنيوي لهذه المشاريع، هم الحقيقة الغائبة والمسلوبة والتي يتجاهلها الجميع إلا في إطار ما يخدم توجهاتهم ومطامحهم، دون التطرق موجود شعب عريق على أرضه التاريخية، خذله التاريخ وشرذمته الجغرافيا، وللأسف، فالكرد كذلك، مايزالون في طور الترنح السياسي بين المحاور، ولم يتم طرح مشروع سياسي بخصوصية كردية جامعة، الأمر الذي يساهم في تأرجح البوصلة الكردية حسب نتائج الصراع بين الأطراف الأخرى، وهذا ما يعقّد المشهد أكثر فأكثر، ويضع الكرد ومستقبلهم على مفترق الطرق.