أحمد مرعان
في أرضٍ كانت مهداً للحضارات، تحمل على أكتافها ثقل التاريخ، وتزينها قصص الفرح والألم، ما تزال تُكتب بفصولٍ من دمٍ ومآسٍ، لكنها في ذات الوقت تنسج خيوط الرجاء والأمل من قلب الرماد.
ما يزال المشهد مبهماً، يشبه رقصة الظلال حين تدور الشمس على جدران مأساة لا تنتهي؛ شمسها حارقة، أزهارها ذابلة، أغصانها خاوية من الثمر، الكل يتصدع، والكل يدّعي حيازته على مفتاح الحل. والواقع يعلمنا أن سوريا ليست ملكاً لأحد، ولا لقضية واحدة. فالسياسيون اليوم لا يُقاسون بقوتهم أو نفوذهم، بل بقدرتهم على إعادة الثقة لشعب أنهكته سنواتٌ عجاف من الحرب والتشرذم والضياع. لا مستقبل حقيقياً واضح المعالم، ما لم يكن هناك حوار جاد، بعيداً عن أجندات خارجية تلعب دورها في مضمار حلبة الصراع، وبعيداً عن الحسابات الضيقة والآنية. نحتاج إلى حلول تستند إلى مصالح السوريين أولاً وآخراً، لا إلى مآرب القوى الخارجية؛ لولادة فكرة، لوطنٍ جديد لا تمزقه الانقسامات ولا تُبخره المصالح، وطنٍ يعترف بتعدد أصواته ومكوناته، ليجمعها في قارب النجاة بحمولة الإخلاص، لئلا يكون عرضةً للغرق بسهولة عند هبوب الرياح.
لا يكفي أن تُصادر الأسلحة، بل لا بد من العمل على رفع وتيرة التوتر من القلوب كخطوة أولى. فالأمن الحقيقي لن يُبنى إلا على العدالة والمساواة، ومحاسبة من أوقع البلاد في هذا الدمار، والحفاظ على كرامة الإنسان وحقه في العيش بأمان.
ما تعيشه سوريا اليوم ليس إلا هدنة مرهقة، حيث يسود الخوف أكثر من السلام، وفي داخل كل فرد غصةُ خسارةٍ في المال والعيال، لا يمكن أن تُنسى. فلا أمان حين تفقد العدالة، ولا أمن دون بناء مؤسسات قادرة على حماية الناس لا السيطرة عليهم وفق مصالح المتنفذين.
فالمجتمع السوري اليوم قطعة موزاييك متفرقة في حجمها وألوانها، وقد تشتّت أبناؤه. ففي كل حجرٍ من بيوت مدمّرة، وفي كل قرية مهجورة، هناك قلوب تريد أن تعانق الحياة من جديد، وتسعى إلى صناعة تواصل حقيقي بين مكوناته. ربما تختلف الرؤى، كلٌّ يرى من زاويته، لكن هذا لا ينقض من الودّ شيئاً، إذا ساد الوعي الجمعي لمساحات النقاش والتسامح. نحتاج إلى من يضمد جراح الماضي بأيدٍ ماهرة، تجيد المسح بنعومة الصدق. وهذا ليس سهلاً، فالمفاهيم التي تزرع الفرقة يجب أن تُمحى بالمحبة. وإذا أُسند الأمر إلى ذوي العقول النيرة، الصابرة، الحكيمة، والفاعلة، فبإمكانهم أن يزرعوا بذرة الأمل بشعورٍ كاملٍ بالانتماء من جديد. حينها فقط يمكن أن يعود النسيج الاجتماعي إلى مكانته، وتبدأ سوريا استعادة حيويتها وروحها الحقيقية.
أما المعيشة، فهي معركة يومية أكثر قسوة، في ظل انقطاع مستدام للكهرباء والماء، وصعوبة بالغة في تأمين الطعام والدواء. السوريون لا يطلبون إلا حياة كريمة، لا تسلبها الحرب أو الفقر، وحلماً ببناء اقتصاد يعيد الحياة، يعتمد على عرق أبنائها ومواردها الطبيعية. فهو مفتاح الانطلاق نحو مستقبل واعد. فإعادة الإعمار ليست فقط في البنيان، بل في بناء الإنسان، بتوفير فرص العمل، والتعليم الجيد، والخدمات الصحية. فقط حينها يمكن أن تبدأ سوريا من جديد بالزهو والنهوض، وستشرق شمسها على وجه كل طفلٍ يحمل حلم الحرية والسلام.
رغم الألم، يبقى الأمل عنواناً ونهجاً منتظراً. الجرح قديم، والندوب عميقة، لكن التاريخ يعلمنا أن شعوب الأرض تتجدد، وتعيد بناء نفسها رغم الدمار. وسوريا ليست استثناء. ففي أعماق هذا الحطام، هناك شعب يريد أن يقول للعالم قصة كفاح وسلام. فهي ليست مجرد بقعة على الخريطة، بل قلب ينبض بالحب، وصوت لا يهدأ في المطالبة بالحرية.
فلنتمسك بالأمل رغم الألم، ونعمل معاً من أجل الغد الأجمل؛ سوريا التي تستحق أن تُكتب باسم السلام، وأن تُروى بحروف النصر، لا بحبر الدم.