وثيقة الجنرال كركيزة فحسب: الموفد الكردي هو من يقرر حقوق شعب كامل!

إبراهيم اليوسف

ما إن تُطو صفحات المعارك الكبرى حتى يظهر للملأ أن البنادق لن تعود وحدها قادرة على صياغة العقود السياسية، لاسيما في زمن الاختصاصات الأكثر دقة، مهما بلغ رنين النصر في حناجر المنتصرين، وإن كانوا خير حماة للحقوق والمواثيق. ذلك أن التفاوض على مصائر الشعوب لا يشبه إدارة الجبهات، ولا توزيع المهمات القتالية، ولا تكفيه الكاريزما ولا يسوّغه الإجماع العاطفي، ولا تُحسم فيه القيادة بالرتبة العسكرية. فالميدان يحكمه الإقدام، أما القرار السياسي فيُحتكم فيه إلى من فوّضه الناس، لا من صفّق له الجنود.

من هنا فإن الجنرال مظلوم عبدي، بما له من سجل لافت في قيادة قوات سورية الديمقراطية، قدّم نموذجاً بالغ التأثير في كسر حلقات الإرهاب، ونجح، بأناة وشجاعة، في تثبيت خطوط الدفاع الكردي في لحظة من أكثر اللحظات اشتعالاً. حيث استطاعت قواته أن تحقّق تقدماً حقيقياً لا يُنكر في وجه المجهول المتربّص. إلا أن هذه المكانة العسكرية لا تتيح له، تلقائياً، التحوّل إلى مرجعية سياسية مفوضة في القضايا الوجودية للكرد السوريين. إذ إن التمثيل السياسي لا يُنتج في غرف العمليات، ولا يُنجز عبر التوقيع السريع على وثائق جزئية، بل عبر توافق يُبنى حجراً حجراً، ويتجسّد في الوفد الذي ارتضته الأطراف الكردية في مؤتمرها الأخير في يوم 26 نيسان الماضي 2025 في مدينة قامشلي، وبدعم أمريكي وفرنسي كما ومعروف.

 لقد تداول بعض المقرّبين من الميدان- عند توقيع الجنرال مظلوم عبدي الوثيقة- أنها لا تتجاوز الجانب العسكري، إذ قيل إنها تتعلق بترتيبات ميدانية لا بخيارات استراتيجية كبرى، ولم تكن معنية بملف الحقوق القومية للكرد في سوريا، ولا بمسألة التمثيل السياسي الرسمي. إلا أن ما جرى لاحقاً هو قلب لمعنى الوثيقة، ومحاولة لتوسيع تأويلها خارج السياق الذي وُقّعت فيه، حتى بدت في يد مناوئي التفاوض كأنها تفويض شامل يتجاوز الوفد المتّفق عليه، ويُلغي القرار السياسي الجماعي. من هنا فإن الإلحاح على اعتبارها مرجعية أو بديلًا عن مسار التفاوض لا يعدو كونه تزويراً مكشوفاً، يسعى لفرض وقائع وهمية على حساب تمثيل شرعي جرى تثبيته علناً، وتحت أنظار الراعيين الدوليين أنفسهم.

إن ما يلوّح به بعض الوسطاء من التعامل مع توقيع الجنرال مظلوم على وثيقة أولية كأنه قرار نهائي باسم الكرد، لا يعدو اعتباره ابتزازاً سياسياً مفضوحاً، يراد به الالتفاف على مسار التفاوض الحقيقي الذي تقرر في ذلك المؤتمر، حيث اختارت القوى السياسية الكردية موفداً رسمياً للتفاوض مع دمشق حول الحقوق الدستورية والقومية والمجتمعية، استناداً إلى ما أجمعت عليه إرادة تمثيلية دقيقة. وإن رفض بعض الأطراف- المحلية أو الإقليمية- لهذا الوفد لا يلغي شرعيته، بل يكشف حجم التواطؤ مع روايات تتعامى عن الكرد وتزيّف الوقائع.

إن المعركة اليوم لم تعد على مشارف” الجزيرة أو ديرالزور والرقة”، كما يراد أن يقال- ولي رأيي الشخصي في وجود أية قوة عسكرية خارج مكانها- بل في عمق التمثيل السياسي؛ فبين أن يُختزل الكرد السوريون في شخص واحد مهما بلغت رمزيته، أو أن يُعاد تثبيت تمثيلهم الوطني والقومي في مؤسساتهم واختياراتهم، فارق جوهري. إذ إن من انتزع بندقية، ليس بالضرورة من يحسن انتزاع اعتراف دستوري، والعكس صحيح. وهكذا فإن توزيع المهمات وتحديد الصلاحيات بين الموفد السياسي والقيادة العسكرية أمر لا ينال من هيبة الجنرال، بل يصون الدور ويوطّد التوازن ويمنع الفوضى التمثيلية.

وبدهي أنه لا يجوز، في مناخ التحولات المصيرية، أن يُطلب من الشعب الكردي أن يسلّم أوراقه إلى جهة لم تُفوّض من قبله في هذا النوع من القضايا، ولا أن تُفرض عليه وثيقة “أولية” جرى تمريرها تحت ضغط اللحظة أو برعاية أطراف لا تؤمن أصلاً بحقوق الكرد، بقدر ما تستخدمهم في تقاطع مصالحها. وإن الاستقواء بهذه الوثيقة، أو تقديمها كبديل عن التفاوض مع الوفد المُجمع عليه، لا يعكس سوى منطق فوقي يريد مصادرة إرادة شعب لم تعد تنطلي عليه ألاعيب المحاور المتبدّلة.

تأسيساً على ذلك، فإن مَن يريد العبور إلى حل دستوري عادل لا بد أن يتعامل مع الوفد الكردي المعتمد، لا أن يلتف عليه باسم الحرب أو السلم. فكما أنّ هيئة تحرير الشام إلى جانب فصائل أخرى منها فصيل ” العمشات” سيء الذكر للمجرم أبي عمشة صعدت إلى سدة القرار بقوة السلاح ونتيجة صفقات ومخطط معروف، فإن الكرد اختاروا سلوك المسار المختلف، عبر التفاوض القائم على التفويض السياسي لا التفوق العسكري. وإن محاولات القفز على هذا الفارق الجوهري ما هي إلا امتداد لسياسات الإنكار التاريخي التي لم تفضِ يوماً إلى حل.

من هنا فإن أي حوار عسكري يستوجب، طبعاً، تواصلَ الموفد مع الجنرال عبدي ومن معه من القادة، حيث لا فصل بين المسارين إلا من باب التخصّص. لكنّ العكس غير جائز. فلا يحق لقيادة ميدانية، مهما بلغ احترافها واحترامها، أن تحل محلّ التمثيل السياسي في توقيع أو تفاوض أو التزام. إذ إننا نعيش في عصر لا يكرّم إلا من احترم حدود دوره، ولا يمنح الشرعية إلا لمن اختارته القواعد، لا من صنعت له اللحظة رصيداً.

وإن كانت بعض القوى الداخلية لا تزال ترفض الاعتراف بمواطَنة السويداء أو الساحل حين تلوح بوثائق الدستور، فكيف يمكن الوثوق بأنها تحترم توقيعاً لم يُفوّض بتوقيعه أحد، ولا يشكل أكثر من خطوط أولية؟ فالمجازر التي طالت أولئك المواطنين لم تردع المخطّطين، ولا جعلت المداد الذي كتب به الدستور أكثر خجلاً. بل إن العناوين التي حملت تلك الجرائم ما زالت تتصدر مشهد الدولة، أو ما تبقى منها.

وبهذا فإن العودة إلى أصل التفويض تعني شيئاً وحيداً: أنّ الوفد الكردي الذي اختارته قواه السياسية، هو الجهة الوحيدة المخوّلة بالنقاش في القضايا المصيرية. أما الجنرال مظلوم، فله المجد الميداني الذي لا يُنتقص، وله الحق في أن يُستشار في أي بعد عسكري، وأن تُحترم رؤيته في كل ما يتصل بالدفاع. لكنّ الانتقال من ساحة المعركة إلى ساحة التفاوض دون توافق، لن يُفضي إلا إلى اختلال جديد في التوازن السياسي، يُضعف الكرد بدل أن يقوّيهم.

أجل. إن الخلط بين المهمات، وتزييف التفويض، ومحاولة تمرير وثيقة لم تُنجز بعد، كلّها عناوين خاطئة لا تقع على الجنرال وحده، بل على من أراد له أن ينوب عن شعبٍ لم يسلّمه مفتاح مستقبله، بل سلّمه أمانة الدفاع عنه، وشتّان بين الأمانتين.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
1 Comment
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زبير عبدالله
زبير عبدالله
4 شهور

باختصار:
١_عدم إلقاء السلاح باي شكل من الاشكال..
٢_السير وراء الجنرال مظلوم ، والدعم الطلق له.
٣_البعد العربي لسوريا له بعده كوردي واذا بقيت عروبتهم، ضمن سوريا ،سيلتزم الكورد ببعدهم السوري..
٤_ الحوار مع الشرع يجب ان بعتمد على مدى دعم فرنسا واسرائيل لنا..وكذالك امريكا.
٥_عدم الامان والثقة باردوغان ،وفقط عندما يتفق شعب شمال كوردستان،مع الجميع معارضة وسلطة حالية…
٥_الوفد الكوردي كما يقال :السلطة السياسية تنبع من ماسورة البندقية…وهنا ماسورة الجنرال عبدي
السعودية تريد سحب سوريا الى طريقها الاقتصادي..دلهى حيفا..أردوغان سحب سوريا الى طريقها قطر انقرة،وضم ابو العمشات ..ايران طرقها قم النجف السدة زينب ،بيروت(والساحل السوري)…
وكل في فلك يسبحون..كما قلت سابقا انتصار اسرائيل،امريكا هو انتصار لشعب كوردستان..وهناك مالانعرفه،او لايمكن قوله…لنجعل جميعا إسرائيل قوية..ولااظن هذه المرة سيتركونا لانقرة وقم ومرتزقة بغداد..

اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…