د. محمود عباس
بقدر ما كانت جغرافية كوردستان مهداً للحضارات الأولى، كانت منبعاً لظهور الأديان وانتشارها، وفضاءً خصباً لتفاعل الإنسان مع الأسئلة الكونية الكبرى حول الخلق والمعنى والوجود، فالكورد شعبٌ واحد، متعدّد الأديان، موحّد الروح، لم تكن الجبال والسهول مجرد مسرح لصراع الأمم، بل كانت رحمًا خصبًا لولادة الأديان وتلاقح الأفكار، التعدد الديني في كوردستان ليس طارئًا أو عابرًا، بل هو جوهر الوجود الكوردي.
فمنذ البدايات السحيقة، اتسمت الأديان التي سادت هذه الأرض بطابع توحيدي واضح، يؤمن بوحدة الخالق وسمو الروح، كما في الديانة الأزداهية، والزرادشتية، والمانوية، والمزدكية، وكلها أسست لرؤية كونية تتجاوز المادية الجامدة إلى بعد روحاني عميق، وقد شكّلت هذه الأديان النواة الفكرية التي بُنيت عليها العديد من الإمبراطوريات التي نشأت في هذه البقعة، وارتكزت ثقافة الشعب الكوردي على مفاهيمها، فغدت الروحانية جزءاً لا يتجزأ من تكوينه الثقافي.
وعلى هذه الخلفية، تقبّل الكورد الأديان السماوية لاحقاً، خاصة تلك التي احتفظت بمفهوم التوحيد، كمبدأ روحي مشترك، غير أن التباين بين الرؤية الكوردية الروحية وبعض المفاهيم الوافدة، كمنطق “التجسيد” في الإسلام، أدى إلى نشوء مذاهب تصوفيه لدى الكورد، عرفت بفكرة “كلية الإله” ووحدة الوجود، كما عبّر عنها الحلاج، وجلال الدين الرومي، والسهروردي. هؤلاء، الذين كفّرتهم السلطات في عصرهم، لم يكونوا زنادقة، بل حملة وعي روحي متقدم، سعوا إلى توسيع أفق العلاقة بين الإنسان والخالق، ورفعوا من مستوى الخطاب الإسلامي نحو بعد أكثر سموًا وتحررًا من القيود الظاهرية.
لقد أظهر الشعب الكوردي عبر تاريخه الطويل وحدة قومية متماسكة، رغم تعدد دياناته، فلم تكن الأديان مصدر شقاق داخلي، بل كانت جزءاً من نسيج اجتماعي فريد، حيث يمكن أن تجد في قرية واحدة مسلمين وإيزيديين ومسيحيين ويهوداً، يعيشون ضمن نظام من الاحترام المتبادل، وتقاليد عابرة للعقيدة، هذه السمة لا تزال حية في قرى ومدن كوردستان حتى اليوم، وتشكل أحد أعمدة الهوية الكوردية الحضارية.
لكن هذا التعايش الروحي لم يسلم من محاولات الإقصاء والتدمير، خاصة بعد الغزوات العربية الإسلامية، حين تم تسخير الدين لأغراض سياسية توسعية، لم يكن الهدف نشر العقيدة الإسلامية بقدر ما كان ضرب البنى الكوردية المستقلة، وإضعاف الأمراء الكورد الذين شكلوا قوة إقليمية مناوئة للخلافة. فالمجازر الدينية التي شهدتها كوردستان لم تكن نتاج صراع شعبي داخلي، بل جاءت نتيجة الصدام بين الإمبراطوريات، وتحولت الأديان إلى أدوات في معارك السيطرة والنفوذ، كما حدث في أواخر العصر الساساني، حين تحوّل الصراع بين الزرادشتية والمزدكية من صراع فكري إلى سبب في تفكك الدولة، وساهم هذا في تسهيل الغزو العربي الإسلامي الذي لم يكن مجرد فتح ديني، بل تفكيكاً للهوية الدينية الكوردية.
ورغم انتشار الإسلام، بقيت الإيزيدية ديانة سائدة بين الكورد حتى أواخر القرن الثامن عشر، وكانت نسبتهم تقارب النصف، وفق ما ذكرته بعض المصادر التاريخية مثل المخطوطات التي تحدثت عن إمارة الشيخان في القرن السابع عشر. وقد كان أمراؤهم من أبرز القوى الكوردية السياسية والعسكرية، مما جعلهم هدفاً للغزوات التي أُلبِست رداءً دينياً، لكنها كانت في جوهرها سياسية تهدف إلى سحق استقلالية القرار الكوردي.
ولم تخلُ كوردستان من حضور يهودي ومسيحي أصيل، فأغلب العشائر الكوردية الكبرى، كعشيرة دوركا، التي أشار إليها شرف خان البدليسي في كتابه “شرفنامه”، كانت تتكون من مكونات دينية متعددة، مما يدل على عمق التسامح والتداخل بين المعتقدات في البنية الاجتماعية الكوردية.
ومن المفارقات المؤسفة أن النزعة الإقصائية الدينية تعود اليوم لتُزرع مجدداً، في وقت يُفترض أن تبنى فيه الأوطان على مبدأ التعدد والتعايش. إذ تُرَوّج الآن مقولات تُقصي المسيحيين الكورد أو اليهود الكورد، وتعتبرهم “عرباً” أو “أقليات وافدة”، في حين أن لهم جذوراً ضاربة في أعماق كوردستان، وجغرافيا تمتد من نصيبين وماردين، إلى سنجار ودهوك وأربيل.
لقد كانت مدن كـ “نصيبين” و”ماردين” من أبرز مراكز نشر المسيحية والثقافة السريانية، واحتضنت مدارس لاهوتية وفلسفية عظيمة، كمدرسة نصيبين التي كانت تضاهي مدرسة الإسكندرية. وقد حافظ الأشوريون والكلدان والسريان -الأراميين على هويتهم القومية رغم تبنيهم للأديان السماوية، مما يعزز فكرة أن الدين لم يكن بديلاً عن القومية، بل مكوناً من مكوناتها.
وفي هذا السياق، لا بد من التذكير بأن استمرار وجود الشبك، والإيزيديين، والكورد اليهود، والمسيحيين، والمسلمين، هو دليل قاطع على عراقة التعددية الكوردية، وعلى فشل محاولات الطمس الديني التي امتدت لقرون. لقد منعت الطبيعة الجبلية الوعرة من جهة، وقوة الإيمان الذاتي لدى أبناء تلك الديانات من جهة أخرى، من القضاء التام على هذا التنوع.
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
4/7/2025م