حوران حم
منذ طرح فكرة عقد مفاوضات في باريس بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وحكومة أحمد الشرع، بدا أنّ هذه الخطوة قد تشكّل نقطة تحوّل في مسار الصراع السوري، عبر فتح باب لتسوية سياسية جزئية أو شراكة في إدارة الشمال السوري. لكنّ هذه المفاوضات لم تُكتب لها الحياة، بعدما اصطدمت بتدخل مزدوج من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، حيث مارس كلّ منهما ضغطًا مباشرًا على طرفي التفاوض – أردوغان على الشرع، وأوجلان على مظلوم عبدي – ما أدّى إلى تعطيل كامل للمسار.
أردوغان: هندسة المشهد السوري وفق المصلحة التركية
منذ بداية الأزمة السورية، سعى أردوغان إلى جعل تركيا لاعبًا لا يمكن تجاوزه في أيّ حلّ سياسي، خصوصًا في ملف الشمال السوري. إدراكه أنّ مفاوضات باريس قد تمنح قسد شرعية دولية دفعه إلى الضغط على حكومة الشرع لإفشالها، ملوّحًا بانهيار التفاهمات الأمنية والسياسية القائمة إن مضت المفاوضات من دون دور تركي مركزي.
هدف أردوغان كان واضحًا: فرض أنقرة كمرجعية إلزامية لأيّ تسوية تخصّ الشمال، وتحويل مناطق مثل جرابلس وعفرين وتل أبيض إلى أوراق تفاوضية في يد تركيا، سواء مع دمشق أو مع الغرب.
أوجلان: من رمز ثوري إلى أداة ضمن حسابات أنقرة
دور أوجلان في تعطيل المفاوضات كان أكثر إثارة للجدل. فمنذ اعتقاله عام 1999 في عملية استخباراتية دولية، تغيّر مساره السياسي تدريجيًا. ففي بداية سجنه، حافظ على خطاب ثوري، لكنه بمرور الوقت تبنّى نهجًا يدعو إلى “السلام مع الدولة التركية”، متخليًا عن فكرة الكفاح المسلح أو الاستقلال.
خلال عملية السلام التركية (2013–2015)، كان أوجلان وسيطًا أساسيًا بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة، لكنه فقد الكثير من رصيده الثوري. وبعد انهيار العملية وعودة الصراع، التزم الصمت لفترة طويلة، قبل أن يعود بنداءات جديدة – أبرزها في 9 أيار 2025 – دعا فيها إلى إعادة صياغة العلاقة مع تركيا بطريقة تجعل الحركة الكردية “جزءًا من الحل الإقليمي” بدلًا من مواجهتها.
هذا التحوّل جعل أوجلان يبدو أكثر انسجامًا مع حسابات أنقرة، حتى في ظلّ تصعيدها لسياساتها القمعية ضد الكرد في الداخل واحتلالها لأراضٍ في سوريا والعراق. لذلك، جاء ضغطه الأخير على مظلوم عبدي لإفشال مفاوضات باريس ونقلها إلى تركيا متوافقًا تمامًا مع مصالح أردوغان.
نقل المفاوضات إلى تركيا: تفريغها من مضمونها
المطالبة بنقل المفاوضات من باريس إلى تركيا لم تكن مجرد تفصيل لوجستي، بل خطوة سياسية تهدف إلى جعل أنقرة المرجعية الوحيدة لأيّ اتفاق. هذا النقل يعني إخضاع أي تفاهم لشروط الأمن القومي التركي، وتحويل المفاوضات من مسار دولي محايد إلى عملية تفاوض غير متكافئة، يكون فيها أردوغان الطرف الأقوى بلا منازع.
قسد بين ضغوط أوجلان وحسابات القوى الغربية
قسد تجد نفسها اليوم أمام معضلة كبيرة: فهي تعتمد عسكريًا وسياسيًا على دعم التحالف الدولي، وفي الوقت ذاته تخضع بشكل كبير لتأثير أوجلان الذي ما زال يتمتع بنفوذ رمزي كبير داخل الحركة الكردية. هذا التناقض يضعف مصداقيتها أمام حلفائها الغربيين الذين ينظرون بريبة إلى أيّ خضوع من جانبها للإرادة التركية، إذ يثير ذلك تساؤلات حول مدى استقلال قرارها السياسي وقدرتها على لعب دور فاعل في أيّ تسوية مستقبلية.
حكومة الشرع: هشاشة السلطة أمام الابتزاز التركي
على الجانب الآخر، أظهرت حكومة أحمد الشرع عجزًا واضحًا عن مقاومة الضغط التركي. فهي سلطة انتقالية تعتمد بشكل كبير على التفاهمات الإقليمية والدعم الدولي، ما يجعلها غير قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية تتعارض مع مصالح أنقرة. لذلك، قبِل الشرع ضمنيًا بشروط أردوغان، مفضّلًا الحفاظ على استقرار هشّ بدلًا من المجازفة بمسار تفاوضي قد يثير غضب تركيا.
انعكاسات تعطيل المفاوضات على مستقبل الشمال السوري
إفشال مباحثات باريس لم يكن مجرد حدث عابر، بل أضاع فرصة مهمة لإيجاد صيغة سياسية كان يمكن أن تؤسس لشراكة بين مكونات الشمال السوري. هذا التعطيل أظهر أنّ تركيا ما زالت تملك حقّ الفيتو على أيّ تفاهمات تخصّ قسد أو الإدارة الذاتية، حتى لو جرت هذه التفاهمات في عواصم غربية.
كما أثبت أنّ أوجلان لم يعد عاملًا مستقلًا، بل بات جزءًا من معادلة تركية أوسع تهدف إلى إبقاء الحركة الكردية ضمن حدود المصلحة التركية، لا المصلحة القومية الكردية.
الدرس المستفاد: استقلال القرار شرط لأيّ حل حقيقي
إنّ تجربة باريس أبرزت أنّ أيّ مشروع سياسي سوري–كردي سيظلّ هشًّا ما دامت الأطراف الفاعلة عاجزة عن فكّ ارتباطها بالنفوذ التركي. تحتاج قسد إلى إعادة تعريف علاقتها بأوجلان وبالحركة الكردية في تركيا إن أرادت أن تكون شريكًا موثوقًا في أيّ تسوية برعاية غربية. وبالمثل، فإنّ حكومة الشرع مطالبة بامتلاك قرارها الوطني بعيدًا عن الابتزاز التركي، إذا كانت تريد لعب دور حقيقي في رسم مستقبل سوريا.
فالتحرّر من الابتزاز التركي، وبناء تفاهمات على أرضية دولية محايدة، يبقى الشرط الأساسي لأيّ حلّ حقيقي ومستدام في سوريا، بعيدًا عن المصالح الضيقة لأردوغان وأوجلان على حد سواء.
|
|