صلاح عمر
لقد هُزمنا من الأصدقاء… من الأحبة… من الذين حلمنا معهم تحت سقف الخوف، وهتفنا سويًّا للحرية تحت سماء القمع.
لم تكن الهزائم التي مزقت قلب الحركة الوطنية الكردية في كردستان سوريا من صنع العدو وحده، بل كانت — ويا للأسى — من صنع أيدٍ كنّا نظنها امتدادًا لأيدينا.
في كردستان سوريا، حيث لا تزال آثار الخطى الأولى للحركة الكردية واضحة على ترابٍ سُرقت هويته، لم تأتنا الخناجر من خصمٍ نحاربه، بل من رفاق الدرب الذين أضاعوا البوصلة حين اقتربنا من الوصول.
منذُ ولادة الحزب الكردي الأول في صيف 1957، كنا نعلم أن الطريق طويل وشاق، لكننا لم نكن نعلم أن الانقسام سيكون السلاح الأكثر فتكًا بنا… لا المدافع، لا المخابرات، ولا السجون.
لقد عشنا زمنًا كنا فيه نعدّ الاختلاف ثراءً، حتى جاء زمن صار فيه الخلاف لعنة. زمن تُرفع فيه رايات الحزب فوق راية الشعب، وتُقدَّم فيه الأجندات الضيقة على حساب الحلم الجمعي بالكردايتي، بالحرية، بالكرامة.
أيّها الرفاق، يا من تعرفون الزنازين وتذكرون ليالي التحقيق الطويلة:
ألم تُهزموا في السجن حين كان الانقسام يأكل وجدانكم أكثر مما كان الجلاد يجلد أجسادكم؟
ألم تتفكك حُلمنا القومي حين خرجنا من المحنة لا أكثر وعيًا بل أكثر تشتتًا؟
من الذي قسّمكم إلى تيارات وصراعات؟
من الذي زرع فينا سمّ الحزبية بدلًا من رحيق القضية؟
العدو لم يكن يومًا بحاجة لأن يُخفي الشمس، فقد كنا نحن من أطفأناها بأيدينا… بخلافاتنا، بغرورنا السياسي، بتكفير كل طرفٍ للآخر، بتسفيه التجارب بدلًا من تصحيحها، وبتسويق الولاء للأشخاص فوق الولاء للقضية.
تعددت الأحزاب في كردستان سوريا، لا لأن القضية تطورت، بل لأن الثقة تآكلت، لأن كل صوتٍ خرج من الصدق تحوّل إلى تهمة، وكل مبادرة وحدة وُئدت قبل أن تولد.
أين ذهبت هولير؟
ماذا فعلنا باتفاق دهوك؟
وكم مرة دفنّا فرص الوحدة بأيدينا، بينما دماء شهدائنا تصرخ: “اتحدوا!”؟
اليوم، حين تنظر الشعوب إلى الكرد، تراهم شعبًا بلا دولة، لكن الكارثة أننا نكاد نغدو شعبًا بلا وحدة، بلا مرجعية، بلا وجهة.
من الذي يُفترض به أن يكون سندنا؟ العالم؟ القوى الكبرى؟ أم ذاك الأخ الكردي الذي يختلف معنا في الرأي، لكنه يحمل في قلبه نفس الحلم؟
أيها الكردي في قامشلو، في عفرين، في ديريك، في كوباني، في تربه سبي، في الحسكة، في الرقة ودير الزور:
ليست قضيتنا في يد الغرب، ولا في قصور دمشق… قضيتنا تموت كل يوم حين نتفرّج على الانقسام، وحين نبرر للخذلان، وحين نعتبر أن “الآخر الكردي” هو خطر أكبر من عدو الأمس!
إن كنا قد هُزمنا من أصدقائنا بالأمس… فإننا سننتصر بوحدتنا غدًا.
فالكرد لا يُهزمون حين يتّحدون، بل حين يخون بعضهم بعضًا، وحين يسكت العقل، ويغيب الوعي، ويُدفن القلب في متاهات المصالح.
ولكن، وكما في كل صفحة مظلمة من تاريخنا، يولد النور من قلب الرماد…
ففي السادس والعشرين من نيسان، اجتمع الكرد في مدينة قامشلو، لا ليضيفوا مؤتمرًا إلى سلسلة المؤتمرات، بل ليصنعوا تحولًا تاريخيًا في وجدان شعبٍ كاد أن ييأس من التلاقي. لقد لبّى النداء قادة وأحزاب وطنيون من مختلف التيارات، متجاوزين الخيبات، متسامين على الجراح، مؤمنين بأن لا نجاة لنا إلا بوحدة الموقف والصف الكردي.
في مؤتمر قامشلو 26 نيسان 2025، لم تُرفع شعارات فارغة، بل طُرحت رؤى واقعية ومسؤولة، وتُوّج اللقاء بإعلان مشروع وطني وقومي مشترك، يؤسّس لمرجعية كردية واحدة، تستعيد ثقة الناس، وتكون قادرة على تمثيل طموحات شعبنا في المحافل السورية والدولية.
هذه اللحظة ليست نهاية الصراع، لكنها بداية الانبعاث.
ليست خاتمة المسار، لكنها صفحة جديدة نكتبها نحن، لا غيرنا.
لقد أثبت الكرد في قامشلو أنهم قادرون على تجاوز الندوب، ومحو آثار الخذلان، ورسم طريقٍ جديد بثقة ومسؤولية.
وإننا اليوم، إذ نستلهم من هذه اللحظة التاريخية، لا نملك إلا أن نؤمن بأن الهزيمة لم تكن إلا استراحة للوعي… وأن النهوض بدأ فعلًا، لا بالشعارات، بل بالإرادة والعمل المشترك.
أيها الكردي في كل شبر من كردستان سوريا…
هذه فرصتُك… كن جزءًا من هذه اللحظة، لا متفرجًا عليها.
فالتاريخ لا ينتظر المتخاذلين، بل يَصنعه المؤمنون بالوحدة، الصادقون في حمل الرسالة، الثابتون على الطريق.